تونس.. هواجس باردة
هناك قلق ما من تحولات الوضع في سوريا. هذا القلق رسمي بالأساس، وإن ظلّ إلى حد الآن مكتومًا. يكفي أن نتطلع إلى ليبيا حيث تحدث المفتي عن وجوب طرد الروس، أو إلى الجزائر حيث لا ينفك عدد من الرسميين بمن فيهم الرئيس تبون، بالرغم مما هو معروف من تحفظ لدى الجزائريين، عن التأكيد أن الجزائر صلبة، وأنها متحدة مع شعبها لا يمكن هزمها. لا مبرر لمثل هذه الإشارات لولا تخوفات ما.
في مصر، ظهر الرئيس السيسي بخطاب تحذيري لا يخفي الذعر مما يحصل في سوريا، معتبرًا أن "هدف المجموعات الإرهابية بعد سيطرتهم على سوريا، هو مصر ودولتها". في تونس، صرح الرئيس قيس سعيّد أثناء زيارة غير معلنة لجنوب ووسط البلاد يوم السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول، أن تونس تحتاج إلى "وحدة وطنية حقيقية" في مواجهة الأخطار المتربصة.
لا يمكن فهم كل التحركات والتعبيرات التي تخترق المنطقة سوى بعمق التحوّل الذي حدث في سوريا، والذي كانت سرعته مفاجئة جدًا لحكوماتها
منذ أيام قليلة، نشر شقيق الرئيس قيس سعيّد ومدير حملته الانتخابية الرئاسية الأخيرة رسالة على حسابه بالشبكة الاجتماعية فيسبوك. نشرت الرسالة باللغة الإنجليزية، مما فُهم منه أنها موجهة للشركاء الأنجلوسكسيون لتونس، وخاصة إلى الأمريكيين. احتوت الرسالة دفاعًا عن سياسة شقيقه الرئيس، وتأكيدًا على أنه ضمان لاستقرار المنطقة عبر سياسة التعاون التي انطلق فيها مع الشركاء الأوروبيين في موضوع الهجرة غير النظامية.
أرسل الرئيس قيس سعيّد وزير خارجيته إلى القاهرة للقاء المسؤولين المصريين، فيما يبدو أنه محاولة لتنشيط التعاون إزاء الأخطار الجديدة المحدقة بعد "تحرير سوريا". ما الحاجة لكل هذه التحركات لولا بعض القلق؟ ما الحاجة إليه بالنسبة لرئيس لم تمض على إعادة انتخابه بنسبة واسعة من الأصوات إلا بضعة أشهر، ويملك قنوات للتواصل مع شركاء البلاد قنوات أفضل من نص ينشره شقيقه على شبكة فيسبوك؟ لا يمكن فهم كل هذه التحركات والتعبيرات التي تخترق المنطقة سوى بعمق التحول الذي حدث في سوريا، والذي كانت سرعته مفاجئة جدًا لحكوماتها.
مع قرب حلول ترامب بالبيت الأبيض وما يبدو أنه إصرار من الديمقراطيين على بث الفوضى في كل مكان قبل ترك السلطة المحتوم لخصومهم، ومع تنامي الدور التركي في المنطقة العربية، واختلاط الاعتبارات التي تحكم التحركات الدولية، فإن أفكارًا موجبة للتوجس لا تنفك تتداول هنا وهناك.
بالنسبة للبلدان الأربعة، ليبيا والجزائر وتونس ومصر، وبالرغم مما يبدو من ديمقراطية أسفرت عن انتخابات أعادت كلها تنصيب نفس الحكام، فإن الأوضاع الاقتصادية والمالية تتسم بدرجة عالية من عدم الاستقرار. إذا ما استثنينا الجزائر وليبيا المتمتعتان بهامش تحكم في الأزمة بفضل الثروة النفطية، فإن الوضعين المصري والتونسي مقلقان بلا آفاق للحل أو للتنسيب.
بالنسبة للبلدان الأربعة، ليبيا والجزائر وتونس ومصر، وبالرغم مما يبدو من ديمقراطية أسفرت عن انتخابات أعادت كلها تنصيب نفس الحكام، فإن الأوضاع الاقتصادية والمالية تتسم بدرجة عالية من عدم الاستقرار
يزيد ضيق مجال الحريات أو انعدامه في الشعور بهذا القلق وتوزيعه على مساحة واسعة من الفئات الاجتماعية ويعطي الاستبداد الانطباع بأن السلطات في البلدين في وضعية إنكار جارف للواقع. إذا كان هناك إنكار لوجود أزمة، فلا إمكانية أصلًا لأي نقاشات جدية حول سبل تجاوزها.
بالنسبة لتونس، فإن حديث الرئيس السريع عن الوحدة الوطنية لا يجب أن يغالط أحدًا. في تونس، كان استعمال هذا المصطلح تاريخيًا دليلًا على الإمعان في الانغلاق، وليس تعبيرًا عن أي مساعٍ للانفتاح. استعملت "الوحدة الوطنية" دائمًا ليس للتجميع، وإنما لحصر المعارضين في الزاوية، فكانت باستمرار وحدة الأنصار حول الرئيس وليس وحدة الشعب.
لم يكد الرئيس يصل قصره بالعاصمة حتى كانت هناك تصريحات لقيادات نقابية حول وجوب الاستعداد لـ"شتاء ساخن"، وهو تصريح لا يتميز بالبروتوكولية المعروفة. نعرف جميعًا أن هذه العبارة وإن تكررت من سنة إلى أخرى، فإنها تأخذ هذه المرة معنى مغايرًا. هناك تحفز لشيء ما لا يتم ذكره بتاتًا بصفة مباشرة. لنقل الفكرة بما تفرضها أهميتها من وضوح: هناك توقع ما بأن تتفاعل قضية الحريات مع الصعوبات الاقتصادية غير المسبوقة وانعكاساتها الاجتماعية، وأن يتفاعل كل شيء في النهاية مع عملية إعادة ترتيب ما في المنطقة العربية تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤهم الأتراك، تأخذ طابع "نشر الفوضى".
حديث الرئيس السريع عن "الوحدة الوطنية" لا يجب أن يغالط أحدًا. في تونس، استعملت "الوحدة الوطنية" دائمًا ليس للتجميع، وإنما لحصر المعارضين في الزاوية، فكانت باستمرار وحدة الأنصار حول الرئيس وليس وحدة الشعب
ليست قضية الحريات وتعامل الدولة مع القوانين ومع القضاء إذًا هي ما يثير التوجس، بل إمكانات تفاعلها مع مسائل أخرى. عاش حكم زين العابدين بن علي قرابة ربع قرن وهو يضع الحرية تحت حذائه بمباركة أصدقاء تونس وشركائها الغربيين. من هذه الناحية، على الرئيس أن يطمئن تمامًا. لا ينبغي أن ننكر أن هناك موجة من المساندة الشعبية لقرارات الرئيس وقوانينه وطرقه في مواجهة معارضيه وخصومه، يبقى أن مسألة الحريات التي لم تشكل تاريخيًا عنصرًا حاسمًا في أي تحول عميق في السلطة، يمكن أن تلتقي مع مسائل أخرى أشد وطأة على التونسيين.
هناك مشكلان كبيران حاليًا لا أعتقد أن السلطة واعية بحجم ما تسلطانه من مخاطر: انهيار أسعار زيت الزيتون، وقانون الصكوك البنكية الذي سيدخل حيز النفاذ بداية شهر فيفري/شباط من العام الجديد. بالمعنى الاقتصادي البحت، يتعلق الأمر بكارثتين حقيقيتين.
هناك مشكلان كبيران حاليًا لا أعتقد أن السلطة واعية بحجم ما تسلطانه من مخاطر: انهيار أسعار زيت الزيتون، وقانون الصكوك البنكية الذي سيدخل حيز النفاذ بداية فيفري من العام الجديد. بالمعنى الاقتصادي البحت، يتعلق الأمر بكارثتين حقيقيتين
لا يمس الانهيار التاريخي لأسعار زيت الزيتون (الثروة الفلاحية الأولى للبلاد التي كانت إلى حد قريب هي من يفك الخناق على اقتصاد البلاد)، ميزان المبادلات فقط، بل حياة عدد كبير من التونسيين، بصفة مباشرة وغير مباشرة. في منطقة الساحل والوسط وحتى جهات واسعة من الجنوب، فإن أسعارًا متوسطة تعني تسديد العائلات لديونها، في حين أن أسعارًا جيدة تسمح لنفس العائلات بالإنفاق، وبادخار بعض الأموال للأوقات الصعبة.
لم تتجاوز أسعار لتر زيت الزيتون هذه السنة في السوق المحلية نصف، وأحيانًا ثلث، ما كانت عليه في العام الماضي. هذا ما يجعل الناس تتحدث عن انهيار غير مسبوق لهذا القطاع الإستراتيجي في فلاحة البلاد، وليس عن مجرد انخفاض تحكمه ضرورات السوق. في المقابل، لن تجني البلاد من تصدير الزيت ما كانت تجنيه إلى حدود الموسم الماضي، ولذلك انعكاسات كارثية أخرى على الميزان التجاري وجلب العملة الصعبة. ينبغي أن نتوقع إذا الانعكاسات الاجتماعية لهذه الكارثة، وأن نتوقع، من خلال خريطة غابات الزياتين، أين سيتم الشعور بوطأتها.
أما في موضوع قانون الصكوك البنكية، والذي أصبح الصك البنكي بمقتضاه وسيلة خلاص بالحاضر للخدمات أو السلع وليس وسيلة تقسيط أو تأجيل الدفع، فإن الانعكاسات الممكنة لا تقل كارثية على الطبقات الوسطى وعلى التجار. يقول بعض الخبراء إنّ هذا القانون سيقضي على ما تحقق من فتات النمو الاقتصادي الذي تحقق بفعل الاستهلاك الخاص. بالنسبة للموظفين على الأقل، فإن الصك البنكي كان يسمح بتقسيط الشراءات بطريقة تلتف على ضعف الأجور وتدني المقدرة الشرائية.
لم تتجاوز أسعار لتر زيت الزيتون هذه السنة في السوق المحلية نصف، وأحيانًا ثلث، ما كانت عليه في العام الماضي. هذا ما يجعل الناس تتحدث عن انهيار غير مسبوق لهذا القطاع الإستراتيجي في فلاحة البلاد، وليس عن مجرد انخفاض تحكمه ضرورات السوق
على صعيد مقابل، فإن التاجر يقتني سلعه التي يضعها للبيع، بنفس الطريقة، ما يعني أن الاعتماد على عامل الثقة في العلاقة بين التجار، ثم بينهم وبين المستهلكين، سينتهي تمامًا. لا يعد القانون الجديد في المحصلة سوى بإيقاف الاستهلاك الداخلي وانتكاسة كبيرة للنشاط التجاري. ينبغي أن نستشرف بقلق انعكاسات هذا القانون إذن على الطبقة الوسطى وفئات التجار، أهم قاطني المدن، أي في المحصلة على الاستقرار في الأوساط الحضرية.
بالنسبة لأي سلطة عقلانية، يمثل استشراف الأزمات وتحليل الروابط الحقيقية والمفترضة بينها، وإمكانية تدخل عوامل خارجية تزيد تلك الأزمات توهجًا، جزءًا من نشاطها اليومي. لا يبدو الأمر هكذا بالنسبة لتونس، على الأقل إلى حد اليوم.
تواجه السلطة في تونس حاليًا أخطر أزمتين تهددان الاستقرار الاجتماعي بكثير من الانغلاق وبأقصى ما يمكن من الإنكار. وبالرغم من أن الرئيس قيس سعيّد قد أخلى الساحة فعليًا من كل التعبيرات السياسية والمدنية المعارضة أو التي تحمل تصورات مختلفة عن أفكاره، وهو ما عبّر عنه تمامًا الجو الذي انتظمت فيه الانتخابات الأخيرة، فإن الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد تضعان كل ما يبدو من استقرار في مواجهة هواجس واقعية مزعجة.