السفارة منكودة الحظ
منذ حوالي السنة، في أكتوبر/تشرين الأول 2023 تحديدًا، قدم السفير السوري الجديد لدى تونس أوراق اعتماده لوزير الخارجية التونسي السابق نبيل عمار. كان ذلك تجسيمًا لقرار الدولتين التونسية والسورية في أفريل/نيسان 2023 إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما بعد انقطاعها لمدة تزيد عن العشر سنوات.
قطع الرئيس السابق المنصف المرزوقي هذه العلاقات احتجاجًا آنذاك على انتهاك النظام السوري لحقوق الإنسان، ومسؤوليته عن مجازر ضد المحتجين الذين كانوا لا يزالون سلميين آنذاك. ينبغي الإشارة إلى أن قيس سعيّد أعاد هذه العلاقات والنظام السوري لم يغسل يديه من دماء شعبه.
قطع الرئيس السابق المرزوقي العلاقات مع النظام السوري احتجاجًا آنذاك على انتهاكاته لحقوق الإنسان، ومسؤوليته عن عدة مجازر.. لاحقًا أعاد قيس سعيّد هذه العلاقات والنظام السوري لم يغسل يديه من دماء شعبه
هناك نظرتان لسوريا في تونس، يلخصهما هذان الموقفان، بغض النظر عما إذا كنا نميل للأول أم للثاني. والنظرتان مستقرتان تقريبًا، بنفس التحاليل والتموقعات اليوم أيضًا بعد سقوط نظام بشار الأسد وسيطرة قوات "هيئة تحرير الشام" التي أطلقت على عمليتها الواسعة اسم "ردع العدوان". كان الأمر سريعًا، بل شديد السرعة. أحد عشر يومًا لا تسمح لأحد بتغيير موقفه جذريًا ممّا يحدث في سوريا حتى لو أراد.
بصفة إجمالية، إنّ من عارضوا قطع العلاقات مع دمشق في بدايات 2012 وشنّوا من أجل ذلك حملة دعائية واسعة ضد الرئيس المرزوقي وحلفائه السياسيين آنذاك، كانوا من شكلوا الغطاء لإعادة هذه العلاقات على يد الرئيس قيس سعيّد قبل عام من الآن. وبطبيعة الحال فإن الأمر يتعلق بقراءتهم لواقع سوريا والمؤامرات الأطلسية والغربية والصهيونية التي تحاك ضدها منذ "الربيع العبري". ما يحدث في سوريا هذه الأيام لا يمكن إلّا أن يؤكد هذه القراءة حسب نظرهم.
في المقابل، فإن معظم أنصار الترويكا الحاكمة في 2012، (وليس كلهم في الحقيقة)، ينظرون إلى الأحداث الراهنة كدليل على صواب قراءتهم للأمور منذ بدايتها في 2012: ثورة سلمية لم يكن ممكنًا ألا تتحول إلى ثورة مسلحة ضد نظام أمعن في ترهيب وقمع وتهجير شعبه طيلة ثلاثة عشر عامًا، دون احتساب ما فعله بشار في العشرية التي قبلها، وحافظ قبل ذلك بكثير.
بالرغم من رؤية هؤلاء أنّ الأمور تتم بدفع وتمويل إقليمي، وأنّ هناك التقاءً بين إسرائيل وهؤلاء الداعمين من أجل تدمير مقدرات سوريا ومحاصرة المقاومة في غزة ولبنان، فإنهم يعتبرون ذلك مجرد تفصيل أمام فرح السوريين بالتخلص من الطاغية.
يحافظ التونسيون، كل طرف من موقعه، إجمالًا على نفس القراءة للأحداث حتى بعد سقوط نظام الأسد، لكن المفاجأة جاءت مجددًا من السوريين عندما قامت السفارة السورية، يومًا بعد سقوط بشار، بإنزال "علم النظام"، لترفع ما أصبح يسمى علم الثورة. نجمة واحدة قادرة في مثال سوريا أن تحدد تموقعك
يزعم هؤلاء بطبيعة الحال، وهم أساسًا من الإسلاميين، أنهم يصدقون رواية العلاقات العامة التي يقوم بها الجولاني حاليًا، ويحاولون الاقتناع بأنه في نهاية الأمر قريب منهم، وأن انتصاره هو انتصارهم. في نهاية الأمر، ما دامت تركيا منتصرة فهم منتصرون. هذا هو الاختصار الصحيح.
يحافظ القوميون والبعثيون واليساريون التونسيون إجمالًا على نفس القراءة للأحداث حتى بعد سقوط نظام الأسد، لكن المفاجأة جاءت مجددًا من السوريين عندما قامت السفارة السورية، يومًا بعد سقوط بشار، بإنزال ما أصبح يسمى منذ ذلك الوقت رسميًا بعلم النظام، لترفع ما أصبح يسمى علم الثورة. نجمة واحدة قادرة في مثال سوريا أن تحدد تموقعك.
هذا مأزق حقيقي، فقد أعيدت السفارة تعبيرًا عن دعم تونس "للممانعة"، بل إن بيان الخارجية التونسية تحدث، إثر سيطرة المعارضة السورية على حلب، عن "هجمات إرهابية"، داعيًا إلى "الوقوف إلى جانب نظام دمشق ضد المؤامرة التي تتعرض لها سوريا". بطريقة أو بأخرى، أصبحت "الجماعات الإرهابية" من منطلق الممانعين هي النظام الجديد في دمشق. إذا لم تحصل تطورات نحو الواقعية، فيفترض أن تقوم الحكومة التونسية إذًا بقطع العلاقات مع نظام "الجماعات الإرهابية" في دمشق، حيث لا أحد بإمكانه تحمل أن يقع تمثيل هذا النظام لدى دولة تعتبره في المحصلة "إرهابيًا". لنقل إنّنا نتجه في تونس حقيقةً نحو مزيد من الواقعية، وإنّ خارجيتنا أقرت أن ما يحدث في سوريا هو شأن السوريين، وهو مخرج دبلوماسي رشيق لما أوقعنا فيه الحماس المبالغ فيه.
لنقل إنّنا نتجه في تونس حقيقةً نحو مزيد من الواقعية، وإنّ خارجيتنا أقرت أن ما يحدث في سوريا هو شأن السوريين، وهو مخرج دبلوماسي رشيق لما أوقعنا فيه الحماس المبالغ فيه
لكن هناك إشكالٌ آخر، وهو أن "تكويع" سفير النظام السوري السابق، الذي أصبح اليوم سفيرًا للنظام الجديد، أي في نهاية الأمر للجولاني، كان تكويعًا سريعًا جدًا. غداة سقوط نظام الأسد، التقى السفير بعدد من أبناء الجالية السورية المقيمة بتونس. المشكل أنّ سرعة الدعوة لهذا اللقاء أنتجت مشهدًا آيةً في العجب، حيث التقى عدد قليل جدًا من معارضي نظام بشار، بأغلبية من أنصاره الذين كوّعوا بنفس سرعة تكويع السفير.
الحقيقة أن السفير قد وقع اختياره من نظام دمشق المنهار بكثير من العناية، فقد كان مطلوبًا منه أن يعيد فتح سفارة مغلقة منذ عشر سنوات، وأن ينسج حولها شبكة علاقات مساندة لتوجهات النظام، وأن يتعرف من خلال عناصر هذه الشبكة، وبعيونها، على الواقع السياسي التونسي، لذلك كان معظم أصدقائه التونسيين من الممانعين. هذا معقول جدًا لأي سفير في أي دولة.
المشكل الآن أنّ السفير، من أجل الحفاظ على منصبه الذي لن يحتفظ به مهما كوع، سيجد نفسه مجبرًا على التخلي عن أولئك الأصدقاء، وبناء شبكة جديدة من العلاقات متناسقة في تركيبتها مع "الظروف الجديدة"، وهذا صعب جدًا، لأنّ هؤلاء للصدفة من خصوم الحكم في تونس ومعارضيه، أي ممن يمكن أن يتهموا بالتخابر لو اجتازوا عتبة السفارة أو ردّوا على مكالماتها واستجابوا لدعواتها. وبما أنه ليس متوقعًا من القوميين والبعثيين واليساريين التونسيين أن يكوعوا مثل السفير (سيكون ذلك، إن تم، مسيئًا لهم) فإن السفير سيجد نفسه في المحصلة وحيدًا.
وبالرغم من أنّ الوحدة أفضل دائمًا من "صحبة السوء" فإن ذلك سيعتبر، من قبل خارجية الجولاني، فشلًا في قيام السفارة بمهامها، وهكذا فإن السفير لن يعاني فقط من الوحدة، بل من فشل التكويع، وإنهاء المهام.
لا نعرف في خضم "هذه المأساة" ما سيكون مصير ملفات "التعاون الأمني" بين السفارة وملحقيتها الأمنية مع السلطات التونسية، ذلك أن هذا التعاون، إن وجد حقيقة، كان يتم حول "الإرهابيين التونسيين الناشطين بسوريا" إذا استعملنا اللغة الأمنية والدبلوماسية. بمستوى أو بآخر، فإن هؤلاء أصبحوا شركاء النظام الجديد في دمشق، وجيشه الذي أسقط به النظام السوري السابق. لا أحد يعتقد أن السفارة ستواصل التعاون مع السلطات التونسية التي لم يتغير شيء في قراءتها لدور أولئك في زعزعة الاستقرار ماضيًا، وربما مستقبلًا، بالبلاد، عندما ستتاح لهم الفرصة.
لا نعرف ما سيكون مصير ملفات "التعاون الأمني" بين السفارة السورية وملحقيتها الأمنية مع السلطات التونسية
تكويع السفارة السورية يطرح إشكالًا أمنيًا على تونس، حيث سيتوقف التعاون الأمني، باعتبار أن السلطات الجديدة، التي تمثلها السفارة المكوّعة، تعتبر هؤلاء الإرهابيين مجاهدين، وربما رأينا بعضهم يتسلم مناصب في الحكومة الجديدة. فلنتصور مثلًا أن يرسل إلينا الجولاني سفيرًا من هؤلاء، أو أن يجعل طاقم السفارة كله منهم. وإذا صحت الأنباء حول تكليف الجولاني أحد أتباعه ممن كانوا معتقلين في إيران (حيث يقال إنه قضى هناك سنوات سجن طويلة) بملف العلاقات مع إيران، فسيكون مأزقًا حقيقيًا. لا أحد ممن له أدنى نصيب من عقل يمكن أن يؤمن بحملة العلاقات العامة الحالية للجولاني، لذلك فالأمر مطروح وليس مجرد إمكانية خيالية.
في نهاية الأمر، عندما كان الجولاني وأنصاره يستعدون للسيطرة على المدن السورية وإسقاط بشار، كنا نحن نعيد العلاقات مع نظامه. لذلك فإن أهون الحلول قد يكون إعادة قطع العلاقات، والطلب بكل لطف من السفير المكوّع أن يغادر. سيحل ذلك مشاكل عديدة، ويقينا من حرج كبير. تونسيًا، سيصبح أنصار الترويكا السابقة غاضبين، وسيؤيد القرار ذلك الخليط القومي البعثي اليساري، وسينتج ذلك حركية سياسية تونسية داخلية جديدة، فيصبح كل الوضع، أخيرًا، طاردًا للملل.