يرجى الانتظار ...

قيس سعيّد وأحداث سوريا.. "الساموراي الأخير"

قيس سعيّد وأحداث سوريا.. "الساموراي الأخير"

يمكن اعتبار تونس أكثر دولة أصدرت بيانات حول تحولات الوضع بسوريا منذ زحف قوات المعارضة كما يطلق عليها إعلاميًا، نحو مدينة حلب. يمكن بالفعل تعداد ثلاثة بيانات لوزارة الخارجية التونسية في خصوص تطورات الوضع السوري إلى حد الآن، وهو تواتر لم تحققه أي وزارة خارجية أخرى تقريبًا، بما في ذلك الدول الأكثر تورطًا أو تضررًا في القضية السورية. يمكن للبيانات الثلاثة أن تضيء أهم جوانب السردية الرسمية التونسية حول تطورات الأحداث في سوريا، أو بالأحرى موقف السلطة التونسية تجاه تطوراتها المتسارعة.

صدر أول بيان تونسي حول سوريا يوم الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2024، أي في الفترة الفاصلة بين سقوط حلب والسيطرة على حمص، وبالتحديد بعد سيطرة قوات المعارضة على الطريق الرئيسي الذي يربط جنوب سوريا بشمالها. تحدث البيان عن "إدانة تونس الشديدة للهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا في المدة الأخيرة"، مؤكدًا "تضامن تونس التام مع الجمهورية العربية السورية، مع دعوة المجموعة الدولية لمساندة هذا البلد الشقيق حتى يحافظ على سيادته وأمن شعبه واستقراره ووحدة أراضيه". 

تواتر بيانات الخارجية التونسية حول تطورات الوضع في سوريا مؤخرًا، لم تحققه أي وزارة خارجية أخرى تقريبًا، وهي بيانات تضيء أهم جوانب السردية الرسمية التونسية حول تطورات الأحداث هناك

صدر هذا البيان في الفترة التي لم يتضح فيها شيء عن التحولات الممكنة في سوريا حتى بعد السيطرة على حلب دون قتال. لن يتضح التوجه النهائي للأمور إلا بعد دخول المقاتلين إلى حمص، دون قتال أيضًا. عندئذ أصبح شبه مؤكد أن الجيش الذي لم يقاوم في حلب وحمص لن يقاوم في دمشق، وأن التصريحات التي كان يطلقها أعمدة نظام بشار الأسد لم تكن إلا هراء بلا تأثير فعلي على الميدان.

كان مثيرًا للريبة، منذ سقوط حلب، صمت الدول، غربيّها وعربيّها عمّا يحصل، بل وإلغاء جامعة الدول العربية اجتماعها الذي كان مخصصًا لموضوع سوريا، دون تقديم أي تفسيرات. لا يمكن أن يلغى اجتماع بمثل هذه الأهمية هكذا. حتى الدول التي لم تكن في عداء مع بشار الأسد، مثل الجزائر، كانت قد التزمت الصمت. كان الصمت على المستوى الدبلوماسي الدولي مريبًا بالفعل. لا نفهم من بيان الرابع من ديسمبر إن كانت الخارجية التونسية قد تفطنت إلى أن شيئًا ما بدأ في التعفن في مملكة الدنمارك، فكان البيان نوعًا من الانتحار المشرف، أم أنها لم تتفطن لشيء من ذلك.

بعد سقوط دمشق بأيدي المعارضة، ودون قتال أيضًا، ستصدر وزارة الخارجية بيانها الثاني، الذي سيكون أكثر إسهابًا من الأول، والذي سيؤكد على التفريق بين سوريا كدولة، وبين النظام الذي يحكمها، والذي كان رئيسه قد فرّ تحت جنح الخزي قبل صدور البيان. لم يعتذر البيان الثاني عن البيان الأول، لكن طوله واعتماده الإسهاب في عرض الأفكار كان يوحي ببعض الندم على تسرّع ما. لم يذكر البيان الجديد شيئًا عن الإرهابيين الذين ذكروا في البيان الأول والذين أدانت تونس هجماتهم على الشمال. هناك في البيان الثاني كل العبارات الدبلوماسية التقليدية التي سنجدها في بيانات الدول الأخرى التي كانت قد بدأت تباعًا في الصدور: الدعوة لوحدة الشعب السوري واعتبار أمور الحكم شأنهم الداخلي. لقد سبقناهم فقط ببيان، مجرّد بيان بأربعة أسطر.

بعد سقوط دمشق بأيدي المعارضة دون قتال أيضًا، أصدرت وزارة الخارجية بيانها الثاني، الذي لم يعتذر عن البيان الأول، لكن طوله واعتماده الإسهاب في عرض الأفكار كان يوحي ببعض الندم على تسرّع ما

بعد يومين من البيان الأخير، سيستقبل رئيس الجمهورية وزير الخارجية، وسيكون حديث عن "وجوب استشراف وزارة الخارجية لكل الأوضاع التي يمكن أن تستجد"، في "عالم يشهد تطورات متسارعة غير مسبوقة". بدا أن الرئيس يلقي بالمسؤولية على الوزارة فيما يمكن أن يسميه البعض "تسرعًا" في التفاعل مع أحداث سوريا، عبر إصدار البيان الأول. مع ذلك يعلم الجميع الآن أن وزارة الخارجية لا تصدر منذ سنوات حرفًا واحدًا لا يكون الرئيس هو الذي كتبه أو أجازه بنفسه.

 

إجمالًا، يمكن تصنيف الدبلوماسية التونسية التقليدية بأنها دبلوماسية محافظة، وأنها راكمت بصفة عامة تجربة تسمح لها بعدم التورط عمومًا في مواقف خارجة عن" الصف العربي"، مهما كان اتجاه هذا الصف. لا أعتقد أن الدبلوماسيين التونسيين المنتدبين في جامعة الدول العربية وفي دمشق ذاتها وفي بعض العواصم الأخرى لم ينصحوا بالتريث، ولكن لا أعتقد أيضًا أنه وقع الاستماع إلى نصيحتهم. بالنسبة لقيس سعيّد، ربما بدت النصيحة انتهازية سينتج عنها بالضرورة موقف انتهازي. أنا شبه متأكد أنه نظر للأمر من هذه الزاوية، فصدر البيان يحمل وراءه موقفًا واضحًا مما يجري في سوريا، هو بالذات موقف قيس سعيّد.

يمكن تصنيف الدبلوماسية التونسية التقليدية بأنها دبلوماسية محافظة، وأنها راكمت تجربة تسمح لها بعدم التورط عمومًا في مواقف خارجة عن" الصف العربي" ولا أعتقد أن الدبلوماسيين التونسيين لم ينصحوا بالتريث ولكن لا أعتقد أنه وقع الاستماع إلى نصيحتهم

لا يمكن لأحد أن ينكر أن تونس الرسمية غيّرت اصطفافها بالكامل من أطراف الصراع بسوريا، وأنه بعد فترة الرئيس المرزوقي الذي قطع العلاقات مع نظام دمشق السابق وأغلق سفارته، وبعد فترة الرئيس الباجي قايد السبسي الذي لم يعد فتح السفارة ولا أعاد العلاقات متّبعًا موقفًا متحفظًا "ملتزمًا بسياسة الجامعة العربية" كما قيل، فإن قيس سعيّد أعاد الأمور رسميًا إلى ما قبل 2012. يؤمن قيس سعيّد بعدة أفكار حول المسألة القومية وحول الصراع في المشرق تجعله في الموقع الذي عبّر عنه البيان الأول. هذا أمر واضح ولا يستدعي في المطلق إدانة ولا تنسيبًا.

البيان الثالث الصادر يوم 12 ديسمبر/كانون الأول 2024، والذي يحمل إدانة للهجمات الصهيونية على الأراضي السورية واستغلال الكيان الصهيوني "الظروف الخاصة التي تمر بها المنطقة لفرض أمر واقع جديد يخدم السياسة التوسعية للكيان الغاصب" تأكيد لنفس الموقف. لا نجد لغة بمثل هذه القوة في بيانات دول أخرى حول الاعتداءات نفسها، في حين واصلت معظم الدول صمتها المريب. هذا بيان صاغه قلم قيس سعيّد، وتولّت الخارجية مجرّد نشره، وهو موقف مشرّف لتونس. هذا أمر لا أشك فيه.

ينبغي أن نفهم السياق الذي يتطور فيه قيس سعيّد اليوم على مستوى العلاقات الدولية: توتر مع الأتراك والقطريين، اقتراب إلى حد الالتصاق بالجزائر، تعاطف مع الإيرانيين والسوريين ومحور المقاومة إجمالًا -وإن بقي هذا التعاطف أخرس في الأغلب- وتجاهل متبادل مع السعوديين والإماراتيين الذين فشلت كل محاولات قيس سعيّد للحصول منهم على استثمارات أو مساعدات. تمويل الأتراك وتوجيههم للأحداث في سوريا أمر مستفز للأفكار القومية للرئيس، وهو أمر لا ينكره الأتراك ولا "الثوار". فيما عدا هذه الأفكار العامة، فإن الأمور معقدة جدًا. 

يبقى السؤال إن كانت العلاقات الرسمية التي أعيدت مع نظام بشار ستبقى دون تغيير بعد وصول الجماعات التي ذكرت في البيان الأول إلى الحكم في دمشق، أم أن قيس سعيّد قد بدأ في تعلم "الواقعية الدبلوماسية" التي يسميها انتهازية؟

ما هو أكيد هو أن التموقع الظاهر في البيان الأول هو تموقع لم ينسّبه إجرام بشار الأسد ضد شعبه، ولن ينسبه حتمًا اكتشاف فظائع محتشداته ومسالخه. بالنسبة لقيس سعيّد، فإن "المؤامرة واضحة جدًا" بحيث لا يمكن أن ينسّب منها شيئًا. يبقى السؤال إن كانت العلاقات الرسمية التي أعيدت مع نظام بشار ستبقى دون تغيير بعد وصول الجماعات التي ذكرت في البيان الأول إلى الحكم في دمشق، أم أن قيس سعيّد قد بدأ في تعلم "الواقعية الدبلوماسية" التي يسميها انتهازية؟ هذا امتحان صغير آخر قد يكون الرئيس بدأ في استيعابه فعلًا منذ البيان الثاني.

في التحولات السورية المتسارعة شيء ما يوحي بأن الأمور لن تقف عند سوريا، وأن تحولات أخرى مشابهة قد تبدأ في ليبيا قريبًا. هذه ساحة قريبة جدًا من تونس لا تملك البلاد -إن صحت السيناريوهات السوداء- ترف أن تتخذها فرصة جديدة للتعلم والاستيعاب البطيء واستدعاء أفكار عفا عليها الزمن من قبيل "اتحاد القبائل الليبية"، مجددًا.