لا بالروح ولا بالدم.. عن الشعب الذي لم يفدِ أحدًا أبدًا
لم يرفع شعار، عندنا، مثلما رفع شعار "بالروح بالدم نفديك يا فلان". الحقيقة أن وعد الفداء ذاك قد رُفع باستمرار بكثير من العجلة والاستخفاف، ذلك أنه في الأصل وعد ضخم، لكن الجماهير مع ذلك كانت، وهي ترفعه، لا تدرك ما يحتّمه عليها من تضحيات. في سلّم الوعود، ربما أمكن اعتباره الوعد الأكبر والأعلى، الذي لا يتجاوزه في سلّم الوعود وعد آخر. مع ذلك، فقد كان يُرفع وكأنه في أدنى السلّم، وكأنه أقل الوعود استدعاء للتضحيات. لذلك فإن هذا الالتزام بالفداء الأسمى بقي باستمرار بلا قيمة، خارج ما تتيحه ضرورات التعبئة الجماهيرية للحاكم، الذي يفترض أن يكون رئيسًا جمهوريًا، والذي يفترض أيضًا أن يكون زعيمًا منقذًا أو ملهمًا أو غيره.
شعار "بالروح بالدم نفديك يا فلان".. كل من رُفع الشعار لشد عضدهم قد رحلوا خارج هذا الافتراض المنطقي، إما وفاة بعد تمديد لا نهائي لمدد حكمهم، أو قتلًا، أو هربًا
على حد علمي، لم يرفع أحد هذا الوعد تجاه ملك أو أمير يحكم عرشًا ما بالوراثة، أو بأي نوع من الحق الديني. كان شعار الفداء بالروح وبالدم اختصاصًا جمهوريًا في بلداننا العربية، وهذا مما يدعو لبعض التأمل.
ما معنى أن يهزج شعب بهذا الشعار وهو يعلم، منطقيًا، أن هذا الرئيس أو الزعيم راحل، نظريًا، بعد مدته الرئاسية المفترضة أو بعد حربه المفترضة ضد أعدائه الذين يتحولون بسرعة خارقة إلى أعداء للشعب؟ الحقيقة أنّ كل من رفع الشعار لشد عضدهم قد رحلوا خارج هذا الافتراض المنطقي، إما وفاة بعد تمديد لا نهائي لمدد حكمهم، أو قتلًا، أو هربًا. هذا لا يعني ضرورة أن تمسكهم بالحكم كان بسبب تصديقهم أن الشعب سيفديهم بروحه ودمه، بل ربما كانوا الأقل تصديقًا لما يفرضه هذا الوعد من التزام مبدئي على الشعب بفدائهم إذا ما وقع الاضطرار إلى ذلك.
في سياق جمهوري حديث ومشوّه حيث ظلت الجمهورية في جوهر ممارستها الواقعية شكلًا من أشكال الحكم المطلق، يحتاج الرئيس الزعيم باستمرار إلى مثل هذه الالتزامات التي تتحول مع مرور الوقت إلى نوع من الأهازيج التقليدية التي لا يتجاوز دورها ملء الفراغ الصوتي عند لقاء الجماهير. بما أنه لا يمكن في أنظمة غير ديمقراطية حقيقة أن نتصور رفع هذه الجماهير شعارات احتجاج ضد الرئيس، وبما أن لقاءات الرئيس بشعبه هي جزء من الممارسة الجماهيرية، وبما أنه لا يمكن توقع أن تتم هذه اللقاءات في وضعية الصمت، فإن شعار الفداء الأعظم يأتي كمجرد أكسسوار يفرضه توزيع المسموحات والممنوعات على مساحة الصوت والصورة.
هذه إذًا حاجة جمهورية متعلقة بمكملات الشرعية التي تبقى في فضائنا أقل رسوخًا من شرعية الأنظمة الملوكية. من المثير فعلًا للتعجب أن الأنظمة التي يفترض أنها جمهورية، حيث يُنتخب الرئيس مبدئيًا من الشعب، ذات شرعية أقل رسوخًا في الوعي العام للسلطة المنتخبة وللجمهور الناخب على حد سواء، من الأنظمة الملوكية حيث يعفى الشعب من واجب الوعد بالفداء، لأن هذه السلطة تجد من الناس قبولًا أفضل وأشد رسوخًا. هذا لوحده دليل على هشاشة الوعد بالجمهورية في فضائنا السياسي العربي، وليس هناك ما يشي بأن الأمر متجه إلى التغير في المدى المنظور.
شعار الفداء الأعظم يأتي كمجرد أكسسوار يفرضه توزيع المسموحات والممنوعات على مساحة الصوت والصورة عند لقاء الجماهير، وتحوّل مع الوقت إلى نوع من الأهازيج التقليدية التي لا يتجاوز دورها ملء الفراغ الصوتي
هناك أمثلة كثيرة على عدم وفاء الجمهور بوعده الذي أصبح مجرد أهزوجة شعبية. في تونس، ظل الشعب يعد الرئيس الحبيب بورقيبة بالفداء وقد بلغت منه الشيخوخة وأمراضها مبلغًا كبيرًا، وواصل القيام بهذا الواجب الصوتي أيامًا قليلة فقط قبل عزله بسبب تلك الشيخوخة تحديدًا. بورقيبة كان من القلة التي صدقت أن الشعب سيفديها بروحه ودمه إن توجب الأمر، فقد أدمن على هذا الوعد لأكثر من ثلاثة عقود، بل إن استعماله له يعود إلى ما قبل الرئاسة، عندما كان مجرد زعيم وطني يجوب المدن والأرياف محرّضًا على الاستعمار، أي قبل أن تلتصق الزعامة بالرئاسة.
لم يستغرق الأمر ممن كان يرفع هذا الشعار سوى ساعات معدودة لتقديم الوعد نفسه، لخلفه زين العابدين بن علي. سيقضي بورقيبة بعد ذلك ثلاثة عشر عامًا كاملة يتأمل في فراغ الوعد وخواء العهد. اعتقل صدام حسين وحوكم وأعدم دون أن تتقدم الحشود إلى مكان اعتقاله حتى في مظاهرة سلمية رمزية، وقد كان الوعد بفدائه روحًا ودمًا قد تجاوز العراقيين بعشرات الملايين من الحناجر المنتشية أو الغاضبة. ابن علي، علي عبد الله صالح، وأخيرًا بشار الأسد. قضّى هذا الأخير حوالي الأربعة عشر عامًا يقتل من شعبه الجزء الذي يرفض أن يفديه بروحه ودمه، وكذلك فعل أبوه، لكن الجزء الآخر الذي انخرط في الوعد والقتل لم يلبث أن نزع أزياءه وتركها على الطريق، ولم يفد في المحصلة أحدًا أو شيئًا.
قضّى بشار الأسد حوالي 14 عامًا يقتل من شعبه الجزء الذي يرفض أن يفديه بروحه ودمه، وكذلك فعل أبوه، لكن الجزء الآخر الذي انخرط في الوعد والقتل لم يلبث أن نزع أزياءه وتركها على الطريق، ولم يفد في المحصلة أحدًا أو شيئًا
للوهلة الأولى، وحتى الأخيرة، تبدو الملوكيات مستقرة تنعم بالسكينة، لا تؤرقها في الغالب المؤامرات والصراعات، في حين أن الجمهوريات متوترة لا تكاد تستقر على حال، فزعة مستنفرة على الدوام. لذلك فإن إعادة انتخاب الرئيس، أو منحه مُددًا رئاسية أخرى قد تصل إلى مدى الحياة، تحت شعار "الاستقرار" والاستفادة مما تراكم لديه من "حكمة"، قد يكون في جوهره نوعًا من الحسد ضد الملوكيات، والتشبه بها، والقول للشعب الصادح بعهده، إنّ الاستقرار سابق في حكم المصلحة عن الانتخاب، فإذا توافقا فلا بأس، أما إذا افترقا فالحكم لمصلحة الأمة المؤمنة الوادعة، أي الاستقرار.
حكم حافظ ما حكم، ثم ترك بشار، وكان في كل الحالات قد أوصى بأن يكون الحكم في عقبه، وكذلك ظن ابن علي، حيث كانت حرمه تتجهز لنوع من الوصاية على العرش، قبل بلوغ ابنهما سن الرشد. ملوكيتان بملامح جمهورية، دون أن تكون لهما من سمات استقرار الملوكيات شيئًا.
أليس مثيرًا للانتباه أن طائرة الرئيس عندما يغادر للجوء هاربًا من ثورة أصحاب الوعد بالفداء، لا تحمل على متنها سوى العائلة المقربة، فيما يعلق الآخرون في المطارات وعلى المعابر، ليصبحوا عرضة للانتقام؟
أليس مثيرًا للانتباه أن طائرة الرئيس عندما يغادر للجوء هاربًا من ثورة أصحاب الوعد بالفداء، لا تحمل على متنها سوى العائلة المقربة؟ الزوجة والأبناء فقط، فيما يعلق الآخرون في المطارات وعلى المعابر، ليصبحوا عرضة للانتقام. لم يكن على طائرة ابن علي ولا على طائرة بشار حتى الأشقاء أو أبناء الأشقاء، لا أحد بتاتًا. في اللحظة الحاسمة، يتعرّى كل شيء، ويتضح حتى للأكثر قربًا من النظام الهارب، أن الأمر لم يكن يستحق. لحظة انهيار كل شيء، وجد ابن علي وكذلك بشار نفسيهما وحيدين، مرتدين إلى أدنى روابط البيولوجيا، منعزلين عن الجميع، بما في ذلك أولئك الذين منحوا نظاميهما بطشه واستمراره.
لقد غدا الدرس معهودًا بفعل تكراره الذي أصبح مملًا. مع ذلك فإن الشعب سيقدم وعوده بالفداء مجددًا كلما سنحت له أدنى فرصة للارتداد نحو العادات القديمة. لقد بدأ ذلك بعد في بعض البلاد التي لم تفقه من الدرس شيئًا، حيث يعود الرئيس لرفع قبضته كتحية للجمهور المتحلق حوله مُقسمًا بفدائه، مرة أخرى، بروحه ودمه.