الرئيس الذي لا ينبغي أن يسقط نفسه
الرئيس الذي لا ينبغي أن يسقط نفسه
من الضروري الآن، بعد سنة ونصف من عدم الاستقرار في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية وصحية خانقة، أن يفهم الجميع، ورئيس الجمهورية بصفة خاصة، أن المناكفات ليست غاية في حد ذاتها، والأهم من ذلك أن الناس قد كلت وملت وهي لا ترى نهاية لنفق أزماتها. هناك حاجة أكيدة اليوم للخروج من هذه الحلقة المفرغة لأن الحكم ليس في جوهره تلك الصراعات التكتيكية، بل خدمة الناس وحل الإشكالات التي تعترض حياتهم. نحن في وضعية انغلاق سياسي بغض النظر عمن ربح جولة وخسر أخرى، وهذا أمر لا يحق أن يستمر. هناك مشاكل كبيرة تنتظر أن نلتفت صوبها أخيرا، وهذا هو ما يهم الناس فعلا. من الطبيعي أن يمنع اختلال موازين القوى السياسية من إتباع سياسات ترضي الأغلبية التي تسحقها الأزمات. لذلك فإن تعديل الميزان السياسي يجب أن يتخذ ذريعة ليس لإلحاق الهزيمة النهائية بالخصوم، وإنما بدفعهم إلى سياسات معقولة لا تراعي فقط رغباتهم في الهيمنة، وإنما انتظارات الناس. إن مسؤولية كبيرة تقع اليوم على الرئيس بالذات. لقد أعطته الأزمات المتتالية منذ الانتخابات الأخيرة فرصة استغلال كل زوايا الدستور من أجل الخروج من الدور الرمزي الذي ظن كثيرون أنهم سجنوه في ثناياه. لكن ما ذا سيفعل الرئيس بهذا الدور؟ يفترض أن يفعل الكثير، ولكن ذلك يتطلب الكثير أيضا. يتطلب منه الأمر أن ينفتح أولا، ألا يبقى سجينا لشيء يمنعه من القيام بهذا الدور. أن يصلح الثلمات التي ظهرت في أداء المؤسسة، أن يفكر في دور المؤسسة كضمان للاستقرار، وليس فقط أن يفكر في انتصاراته التكتيكية والتفصيلية. لا يمكن للرئيس أن يتجاهل أن الحياة السياسية متمحورة بدرجة أساسية حول الأحزاب. هذا واقع لا يحسن تجاهله بغض النظر عن رغبات الرئيس. يتطلب الأمر أيضا أن ينفتح الرئيس على المنظمات الوطنية، أن لا تبقى علاقته بها سجينة المجاملة، وأن يساعدها على استعادة دورها التحكيمي في الأزمات الكبرى. يتطلب الأمر من الرئيس الانفتاح على كثير من الأفكار التي تضج بها الساحة اليوم. أن يفهم أخيرا أن هناك أشياء أكثر فاعلية من "مكافحة الفساد"، وهي دفع البلاد في خيارات تقطع دابره بصفة باتة، سياسات تدفع بالبلاد ضد منظومة الريع، ضد الإمتيازات، وضد انعدام العدالة في توزيع فرص الحياة. يتطلب الأمر من الرئيس أن يضع نفسه في صلب حركة الدفاع عن الحريات، أن يكون ضامنا لها بوصف ذلك أحد واجباته الدستورية، أن يستمع للناس، أن يكون في قلب حركية سياسية وحقوقية تقطع مع الممارسة المحافظة التي اتسم بها أداؤه لحد الآن. أن يستمع، وأن يفتح باب قرطاج أمام حركة الأفكار التي يضج بها المجتمع. يتطلب الأمر من الرئيس في المحصلة أن يعيد صياغة فهمه لدور المؤسسة الرئاسية، أن يخرج شيئا فشيئا من ممارسة السياسة كما بدت لدى الرأي العام منذ الانتخابات الأخيرة: مجرد فضاء للمناكفات والنرجسيات. يتطلب أن يتبنى أولويات في السياسة كما في المجتمع، وأن تستعيد المؤسسة أخيرا دورها الدستوري الجامع. هذا يتطلب منه جهدا كبيرا، ولكنه جهد يستحق العناء. الأمانة تقتضي أن يسلك هذا الاتجاه: أن يستمع، وأن يتواضع، وأن يأخذ السياسة إلى بعدها الأصلي: دولة تخدم الناس وتنتصر للعدل والحرية.