يرجى الانتظار ...

الزمن المعنوي

الزمن المعنوي

الزمن المعنوي، والأحزاب، والمأزق الحكومي ورطة الأحزاب، وكتلها التي صعدت إلى البرلمان، وكل الفاعلين التقليديين أصبحت شديدة الوضوح منذ فوز قيس سعيد العريض يوم 13 أكتوبر. لم يبق إلا الإعتراف بها والعمل بما يقتضيه الحال. مأزق تشكيل الحكومة، ومأزق استمرارها حتى لو شكلت، ومأزق أية أطراف قد تفكر في التدخل مرة أخرى "لجمع الفرقاء"، ليس فيه أي شك اليوم. بحوالي ثلاثة ملايين صوت، بدا الأمر كأنه مبايعة وليس مجرد عملية اقتراع تقليدية، وبدا وأن البلد الواقعي ينزاح نحو النظام الرئاسي، فيما يبقى كل شيء رسمي رهين النظام البرلماني ومؤسساته المتثاقلة. حتى داخل جمهور الأحزاب، هناك حالة معنوية جديدة تقوم على الشك في الطريق الذي وقع قطعه لحد الآن، سواء كانت الأحزاب منهزمة أو منتصرة في التشريعيات، لأنه أصبح هناك نوع من القناعة بوجود زمنين متنافسين، وبأسبقية الزمن المعنوي على الزمن المؤسساتي، وبخاصة منه الحزبي. ما ألمسه، هو الضجر من تواصل نفس التحجر، ونفس الحسابات، في حين أن الأمور تفلت من كل الفاعلين التقليديين. في هذا السياق المعنوي، ولو قدر أن وجدت البلاد بعد أشهر قليلة نفسها مضطرة لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، لا شيء يضمن أن تحتفظ الأحزاب، عن بكرة أبيها، بنفس الجمهور الذي انتخبها منذ ثلاثة أسابيع. قد يكون هذا الوضع محبطا لطريقة العمل الكلاسيكية الثقيلة، ولكن بإمكانه أن يكون فرصة للبلاد، في انتظار فهم حقيقي للدروس المستخلصة. هل مازال من معنى لتشكيل حكومة حول شخصية يقترحها حزب عاجز، واقعيا، عن تشكيلها ثم عن ضمان تجانسها وبالتالي استقرارها. اعتقادي أنه لم يعد هناك من معنى لكل ذلك، كما لم يعد من معنى للتقسيم الكلاسيكي بين كتلة حاكمة عاجزة عن الحكم وكتلة معارضة لا تستطيع، واقعيا وفي المدى المنظور، أن تكون مستعدة لتقديم بديل في الحكم. هناك فرصة ليخرج شيء مفيد من كل هذا الإضطراب لو تعامل معه الجميع كفرصة: تكوين إئتلاف حول الرئيس المنتخب، وعدم تضييع الوقت في المكابرة والتردد. إئتلاف بقاعدة جماهيرية واسعة، يسمح بتناغم مفيد بين الرئاسة وبقية المؤسسات. طبيعي أن ذلك سيتم على أساس برنامج، وهو على فكرة، سيكون البرنامج الوحيد القابل للإنجاز لأنه سيكون برنامج الواقع وليس برنامج الوعود التي أغدقتها الأحزاب بلا حساب على الناس، والتي لن تحقق شيئا منها بمفردها، مثلما لم تحقق شيئا منها في السابق. أعلم أن الأحزاب ستقوم بكل العمليات الحسابية الممكنة عندما سيطرح عليها مشروع مماثل. هذا طبيعي. ماهو غير طبيعي هو ألا ترى مصلحتها في مثل هذا المشروع. سيمكنها ذلك من أن تعمل معا، وأن تنجز معا، وأن تنجح معا، بالإستفادة من ثقل معنوي هام، ستستفيد منه هي أيضا لاحقا باستعادة ثقة الناس بها. الإستمرار في طريقة العمل التقليدية لن يزيد الأمر إلا سوءا: هناك فشل أكيد، وهناك نجاح ممكن. ما يحتاجه الناس في نظري هو تطويع الحالة المعنوية الراهنة إلى إنجاز واقعي وجماعي. بطبيعة الحال، ربما لو كنت مازلت داخل الإطار الحزبي، لقلت غير هذا الكلام. هذا طبيعي، ولذلك أتفهم المخاوف هنا وهناك. غير أن شيئا عظيما حصل، ودروسا عظيمة قدمت لنا جميعا. سيكون خسرانا مبينا لو ضيعنا هذه اللحظة وعجزنا عن تحويلها لإنجاز. ستكون كارثة لو فوتنا كل تلك الدروس. ليس المطلوب من الناس أن تهجر الأحزاب، ولا أن تتخلى عنها كطريقة في التنظم والعمل الجماعي، المطلوب فقط هو حد أدنى من الرشاقة السياسية تجعل أصعب الحركات ممكنة، ومفيدة!
  • 18 أكتوبر 2019