هل يمكن لمشروع سياسي أن يتخلى عن ضرورة تبني مشروع ثقافي
هل يمكن لمشروع سياسي أن يتخلى عن ضرورة تبني مشروع ثقافي؟ لا يتعلق الأمر بتوصيف معين وشروط معينة لما يمكن أن نسميه "مشروعا ثقافيا"، ولكن بوجود منظومة أفكار تصاحب ذلك المشروع السياسي وتعطيه زخمه وغرض وجوده. إعتقادي أن ذلك غير ممكن، وإلا هوى المشروع السياسي المقصود بسرعة حيث سيظل عاجزا عن تصعيد نخبة تدافع عنه وتعطيه مشروعية الإستمرار والتأثير، وبالتالي تنقله كالمشعل من جيل إلى آخر.
عندما تنظر للصراع الذي يحصل منذ سنوات حول الإعلام على سبيل المثال، ترى بوضوح أن الأمر يتعلق في الغالب بصراع ضد نخبة "قديمة" استقرت في قنوات التأثير الإعلامي والثقافي، من طرف نخبة أخرى(لا أقول جديدة) يرمي كل عملها لمهاجمتها والحد من تأثيرها بغية الحلول محلها، والإمساك بقنوات التأثير تلك (الصراع القديم الجديد حول إجازات البث هو جزء من هذه المعركة). هذا طبيعي في سياق طبيعي. يبقى أن السؤال هو التالي: إذا اعترفت في خضم هذا الصراع بأن النخبة التي تريد طردها من فضاء التأثير هي نخبة ذات مضمون (بغض النظر عن محتوى هذا المضمون) فما هو المضمون الذي تبشر به أنت "كنخبة صاعدة"؟ أعني فيما عدا الضوضاء التي تصدرها، والتجييش الذي تقوم به حتى يبدو وكأنك تقتات منه، ما هو بديلك للثقافة التي تريدها أن تزول أو أن يقل تأثيرها؟ "القديم لم يمت والجديد لم يولد بعد": قولة حكيمة. ولكننا نعرف الآن جيدا القديم، فما هو الجديد؟
تتكون النخب عبر مسار طويل ومعقد، وبالنسبة للنخبة التي تمسك اليوم بفضاءات الثقافة والإعلام والنشر، فقد بدأ مخاض إنتاجها منذ عشرات السنين. بل أكاد أقول أنها كانت نتيحة مخاض لا يعرف أحد له بداية، ولكننا نعرف الآن محطاته الرئيسية: حركة التحديث، توحيد وتعصير التعليم، السياسة الثقافية والإجتماعية التحررية لدولة الإستقلال ... إلخ. هذه منعرجات موضوعية بغض النظر عن تبنينا لمضامينها، فنحن في مرحلة التوصيف لا غير. هذا يعني أن قوة هذه النخبة لا تأتي فقط من تموقعها للحالي في قنوات التأثير الثقافي، بل في أنها ظاهرة احتفظت بقدرتها على الانتماء لمسار طويل،وعلى المراكمة.
في المقابل، عندما تنظر لمن يواجه اليوم هذه النخبة بزعم الحلول محلها وافتكاك أدوات ومواقع تأثيرها على الناس، تجد أولا أن وصفها بالنخبة سابق جدا لأوانه. أما عندما تنظر في المضمون، فلا ترى في الغالب إلا جعجعة كبيرة وتبنيا كاملا للتشكيك في كل شي، ولكن في المقابل دون اقتراح شيء قادر على الاستمرار. هناك انخراط في القطيعة مع كل ما سبق، حيث تتحول القطيعة مع النخبة المقابلة إلى قطيعة مع الثقافة نفسها. لا بناء ممكن دون أسس، والأسس لدى "النخبة الجديدة" غائمة، وسائلة. في المقابل، فإن قراءة ذكية لموروث الثقافة في القرن الأخير كان بإمكانها أن تمنح تلك النخبة أسسا أكثر صلابة تقف عليها لمنافحة النخبة المقابلة بكثير من الثقة. ولكن ذلك يتطلب في الحقيقة أكثر من قليل من الذكاء، بل عملا واجتهادا لا يقوى عليهما إلا من اعتقد فعلا في جدوى أن يكون له مشروع ثقافي حقيقي.
الثقافة هي قبل كل شيء مراكمة. والشعبوية هي نقيض المراكمة. من هذا المنطلق فالشعبوية هي نقيض الثقافة، وليست تعبيرة ثقافية أو نموذجا ثقافيا. تعمد الشعبوية كممارسة "ثقافية" إلى رفض كل شيء، ورفض فكرة الاستمرار وتبني ما سبق، من أجل تعويض كل ذلك بشذرات متباعدة من المسلمات التي لا تلتقي في النهاية سوى في أنها شيء غائم وهلامي مضاد لشيء آخر مستقر وموضوعي. تلاحظ ذلك فيما تطالعه من "أدبيات" المجموعات السياسية الجديدة، وفي عجزها طيلة عقد كامل من الثورة على إصدار عشر صفحات تبين فيها نظرية ثقافية صلبة، يمكن أن تكون بديلا.
الأمر يتعلق، هنا مجددا بالمشاريع السياسية، أي بالأحزاب والمجموعات السياسية التي ترمي للحكم، والتغيير انطلاقا منه. الأمر لا يتعلق بتاتا "بالعصاميين" الذين يحاولون هنا وهناك، والذين لا يتبنى إبداعهم أحد.
هناك حلقة مكسورة في مسيرة "النخب الجديدة" (نقصد بها في هذا النص نخب ما بعد الثورة)، وهي للمفارقة كانت تعتبر قبل خمسين عاما نخبا قديمة. لا أدري على سبيل المثال مالذي يجعل الطاهر الحداد لا يزال غريبا عن "البيئة الثقافية" الطبيعية التي أنتجته، ولكنني أدرك أن نخبة دولة الاستقلال بتبنيه وإقحام نفسها في أفكاره، قامت بعملية انتزاع ذكية. هذا يحيلنا على مواضيع متشعبة، مثل موضوع الإصلاح الاجتماعي والثقافي، حيث لا أستطيع أن أفهم لحد الآن رفض "النخب الصاعدة" له، وانكفاؤها عوضا عن ذلك في زاوية المحافظة المهترئة، دون قدرة على تبرير تلك المحافظة بلغة قادرة على الاختراق. تلك الحلقة المكسورة لا أحد يعبأ بترميمها، ففي سياق التفاهة العام، ينسى كثيرون أن لهم، هم أيضا، جذورا، ويواجهون "ثقافة التغريب" حفاة عراة. طبيعي إذا أن تظهر السوءات، وأن تجعل تلك السوءات كل ما يقولونه رثا وقبيحا، أي شعبويا.
هل يعبر الصراع بين النخبتين فعلا عن صراع إجتماعي؟ هناك قدرة لم تعد خافية للنخبة الثقافية المهيمنة حتى اليوم في أن تبدو كطبقة اجتماعية مستقلة بذاتها، وفي أن تبدو مضامينها الثقافية دفاعا عن مصالح طبقية واجتماعية. لا أعتقد أن هناك اختلافا في ذلك. لكنك عندما تنظر لما يسمى بالنخب الثقافية "الصاعدة" فإنك لا تجد، على مستوى، الانتماء الاجتماعي، فوارق قادرة على أن تجعلك تصنف الصراع كصراع اجتماعي. هناك في المقابل ركون لوضعية الضحية، وهناك تغذية لنوع من الحقد التاريخي، لكن تجاه المسائل الاجتماعية وموضوع الثروة، تجد سلوكا محافظا يرمي بها مجددا في هوة القديم، ويلغيها تماما من دائرة التجديد المرتقب. أكرر: أتحدث هنا عن النخب الثقافية للمجموعات السياسية المنتظمة، والتي تمارس الحكم أو تسعى لممارسته، وليس عن صعاليك الثقافة الفرادى الغائبين في مرارة التجاهل والنكران والتهجمات.
في السياق الراهن، يبقى السؤال سياسيا، وليس ثقافيا للأسف: عندما تنظر مثلا للأداء السياسي للحزب الأغلبي في البلاد، وهو الحزب المهيمن على مفاصل الوضع منذ عشر سنين، أي ثقافة يمكن له، أو لمشاريع المناولة التابعة له، أن ينشئها إذا لم تكن قضية الثروة، والعدالة الاجتماعية، والتحرر، وجسر الهوة مع مفاصل الثقافة الأصيلة، في صلب تلك المضامين؟ هنا أعود للفكرة الأولى في هذا النص: هل يمكن لمشروع سياسي قابل للاستمرار أن ينمو دون أن يرافقه مشروع ثقافي يجعله قابلا للبقاء والتمرير من جيل لآخر؟ بتبسيط أكبر: إذا كان كل جهدك منصبا، سياسيا، على وراثة منظومة قديمة اقتصادية واجتماعية وسياسية، فهل هناك فعلا ضرورة لانتاج مشروع ثقافي بديل؟