هل تملك النهضة تصورا للمرحلة القادمة
هل تملك النهضة تصورا للمرحلة القادمة ؟
فيما عدا تصورها لموقعها، وجغرافية تخوفاتها المتحولة، لا أعتقد أن سلوكها في المدة الأخيرة، ومنذ الانتخابات، يمكن أن يؤكد ذلك. تقديم مرشحها لتشكيل الحكومة، ثم الطريقة التي فقدت بها المبادرة، ثم تعاملها مع الفخفاخ وقيس سعيد، وحتى آخر فكرة بنزع الثقة من حكومة الشاهد، كل ذلك يدل على أن شيئا ما تغير بعمق في السلوك السياسي للنهضة. ربما كان من حق النهضة، بمختلف خطوطها، أن تعتقد أن الكلفة السياسية للتحالف مع قلب تونس هي أقل بكثير من كلفة التحالف مع التيار والشعب، بل ربما اعتقدتُ كمتابع أن الأمر كذلك. لكن هل من حق النهضة أن ترهن البلاد لمخاوفها، وأن ترى في الجميع أعداء وجوديين لها، وأن تدفع من كان اختلافهم معها سياسيا بحتا إلى حضن أعدائها الوجوديين دفعا؟
ماهي الصورة التي بدت عليها النهضة في الأشهر الأخيرة لغير أبنائها، ولغير أعدائها الوجوديين؟ سألخصها في الطريقة التي أنظر بها إليها اليوم، ولست من أعدائها الوجوديين بتاتا: بت أنظر للنهضة كحركة تغلب تناقضاتها الداخلية على تناقضات البلاد، وتعتبر نفسها الأصل وكل البلاد استثناء، كثير من الغرور، كثير من الغطرسة، إبداع كبير في صنع الأعداء، وفي دفع المنافسين ليصبحوا خصوما ثم أعداء، حملات لا أخلاقية لأنصارها على الجميع دون استثناء، تهم جاهزة وتفنن في هتك الأعراض. وقبل ذلك وأثناءه وبعده، كثير من العبث ! أصبحت النهضة للأسف مرادفا لكل ما هو غير مبدئي، ولكل ما هو غير أخلاقي في الممارسة السياسة. أصبحت ببساطة مستعدة لكل شيء، من أجل تأبيد سيطرتها، ولو بليِّ عنق الدستور بالفتاوي الهزيلة والمضحكة.
كيف سقط "أكبر حزب في البلاد" ببساطة في فخ تأويل متسرع للدستور ، فتحمست له قيادات كبيرة، ليسقط كل شيء بجملة واحدة من رئيس الجمهورية؟ بأي تهور استطاعت النهضة أن تدفع بنفسها إلى حافة مثل تلك الهاوية، وبأي "شجاعة" كانت تستمع إلى "نصائح" من "خبراء" ومتمعشين، لم تكن في الحقيقة إلا فخاخا ؟
لا أحسب أن الفخفاخ من المعادين للنهضة، فقد التزم معها لآخر يوم من عمر الترويكا قبل أن تقرر هي بمفردها، ودون استشارة أو حتى إعلام "حلفائها"، أن ترمي المنديل. ولا أحسب أن قيس سعيد من المعادين لها أيضا، فالرجل جاء بأفكار من فوق حسابات الأحزاب، فلماذا استعدتهما النهضة وشنت عليهما كل الحروب الظاهرة والخفية ؟ لسبب بسيط في نظري: اعتبارها أنهما يسلكان طريقا ربما لم يحفظ لها ما تريد. السياسة ليست ما تريد فقط، السياسة هي أيضا أن تجد السبيل لجعل إرادتك غير متناقضة مع ما يريده الآخرون. ألم تقل النهضة نفس الشيء عندما كانت تبرر التوافق طيلة سنوات؟ ألم تبرر به حتى تصويتها لقانون المصالحة، تلك الخطيئة الأبدية؟
العزلة التي تدفع النهضة بنفسها إليها اليوم، حيث لم يبق من صديق لها، وبصفة وقتية، سوى قلب تونس، عزلة لا تدل على أن السياسة التي اتبعت منذ أشهر، حتى لا أقول منذ سنوات، كانت سياسة حكيمة. أو فلنقل أنها لم تحقق الهدف من كل سياسة: منع أن يقع عزلك. هذا غير جيد للجميع، لأنه يحيي لدى البعض غريزة الاستئصال، ويعيدنا إلى مربع كريه يفترض أننا تجاوزناه. ما يجب على النهضة قبوله اليوم، وبكل بساطة، أن السياسة أحادية القطب، قد انتهت، وأن قبولها في السابق بالدونية تجاه قطب المنظومة القديمة، يفترض أن يؤهلها على الأقل للتعامل بندية وبأقل غرور وكِبرٍ مع قطب صاعد آخر من المنظومة غير القديمة. هذا إذا كان هدفها من الحكم أو المشاركة فيه هو الإصلاح، وليس تقاسم الغنيمة. أما إذا كان الهدف هو مجرد تقاسم الغنيمة، فالأمر يصبح مختلفا جدا !