ميل الجزء الجنوبي من البلاد للشرق
ميل الجزء الجنوبي من البلاد للشرق، وميل الجزء الشمالي منها للشمال، وميل الجزء الغربي منها للغرب (الجزائر) ليست، كما قد يعتقد البعض اليوم، أمرا ناشئا عن السجال السياسي الراهن، والتوترات الحزبية في الساحة الوطنية. هذا أصلا ليس أمرا خاصا بتونس، ففي ليبيا مثلا كانت المنطقة الشرقية باستمرار متأثرة بمصر، في حين ظلت المنطقة الغربية متأثرة بتونس. الأمر يتعلق بالروابط التجارية القديمة، فالتجارة ليست تنقل بضائع فقط، وانما تنقل أشخاص، بلغاتهم، وثقافاتهم. التجارة كانت تعني أيضا استقرار بعض مجتمعات التجار بالبلدان التي يتكثف معها التبادل. فقد كانت هناك باستمرار جالية تجار تونسيين بالإسكندرية، ميناء التبادل الأساسي مع جربة على وجه الخصوص. كما كانت هناك جالية تجار تونسيين بإسطمبول. ومثلها، كانت هناك جاليات تجار تونسيين بالدول الأوروبية، فرنسا وإيطاليا (دعنا نتفق أن تسمية جالية هي تسمية نسبية جدا). الأمر يتعلق بالموانئ التي كانت تشحن منها أو تنزل إليها البضائع القادمة عبر البحر.
لاحقا، وبالنسبة لليبيا بشكل خاص، ستكون هناك يد عاملة تونسية كثيفة مهاجرة، معظمها من ولايات الوسط والجنوب التونسيين، وهذه الهجرة كانت عاملا قارا في العلاقة بين البلدين، ولكنها كانت مختلفة في تركيبتها وانعكاساتها عن الهجرة نحو بلدان أوروبا في كل الحالات (هجرة التونسيين لليبيا، وهجرة الليبيين لتونس أمر يتجاوز التجارة والتنقل للعمل، فالحدود كانت نافذة في الاتجاهين وبصفة مستمرة ). نحن نتحدث عن روابط قديمة لا تزال انعكاساتها حاضرة في ثقافتنا، وفي تعاطفنا مع دول معينة أكثر من دول أخرى.
الشرق كان أيضا جهة تبادل علمي طيلة الفترة الحديثة، والأمر متعلق بصفة واضحة بعلوم الدين. العلاقة بالجزيرة العربية هي أيضا علاقة ثابتة، وذات طابع روحي ثابت.
ستبدأ جغرافية التأثيرات بالتحول ببطئ لاحقا، خاصة مع سفر أول الطلبة التونسيين للدراسة بفرنسا. كان ذلك الخطوة الأولى لنشأة روابط ثقافية مستقلة عن مواضيع التبادل التجاري مع الفضاء الغربي، وشيئا فشيئا تكونت نخبة ثقافية متأثرة بالنموذج الفرنسي، دخلت عن طريقها تأثيرات عميقة بوصفها النخبة التي ستمسك فعليا بمفاصل القرار. بدأ التحول منذ فترة الإصلاحات قبيل انتصاب الحماية، ثم تركز وتكثف لاحقا بصفة باتة.
ما يجب في ظني تأكيده، هو أن ما يجري من جدل اليوم، حول القرب من محور في الشرق، والاقتراب من محور آخر في الغرب، هو تواصل، وانعكاس لظاهرة تاريخية وموضوعية. طبعا هناك المزايدات (اتهام المغالين بعضهم البعض بالخيانة والعمالة)، ولكن كظاهرة تاريخية، فإنها تلخص تموقع تونس الجغرافي والحضاري بين تأثيرين كبيرين: الشرق والغرب. إذا تركنا المزايدات المتبادلة جانبا، الوضع طبيعي جدا: هناك صراع بين نخبتين، أو قل بين تصورين للواقع، وللمصير. تاريخيا، هذا أحد عوامل الفرادة التونسية، ولم يكن أبدا عنصر تناحر أو استنقاص.