يرجى الانتظار ...

من يحمي الديمقراطية

من يحمي الديمقراطية

من يحمي الديمقراطية؟ العدل أم هراوات الأنصار؟ هل يمكن، بصورة هادئة، فهم حالة الارتباك التي يعيشها الحزب الأول في البرلمان إزاء التحركات الأخيرة دون مبالغات؟ أعتقد أن ذلك أصبح متاحا بعد ظهور ردود فعل متناسقة من عدد من قيادات الحزب، في المركز والجهات، وكذلك بعض التحركات الميدانية. تصريح بعض نواب الحزب ورئيس شوراه وتحركات بعض البلديات المحسوبة على الحزب الأول لا تنقص من مغزاها عمليات التصويب التي صرحت بها قيادات أخرى، بل إنها قد تحملنا فحسب إلى فهم جانب من التناقضات داخل قيادة النهضة ، حول هذا الموضوع وحول مواضيع أخرى. إن الحديث عن "مناضلي الحركة" الذين سيدافعون عن ممتلكات التونسيين ومؤسسات الدولة ويعاضدون قوات الأمن في تصديها للاحتجاجات لا يبدو مجرد زلة لسان. هذا أمر أكيد. أما انخراط عدد من البلديات في هذا "المجهود" فهو يأخذ الموضوع إلى أبعاد أكثر خطورة. ما يبدو واضحا من خلال متابعة ما يقال وما ينشر هو أن النهضة تعتقد أن هناك مؤامرة على الديمقراطية، (وهي تعني أن المؤامرة تتم عليها)، وأن الأمر لا يتعلق بثورة. أصلا لا يمكن أن تكون هناك ثورة ضد الديمقراطية، وبغض النظر عن الديمقراطية، لا مجال لثورة أخرى مطلقا سواء كانت مع الديمقراطية أو ضدها. هذه هي الأفكار الأساسية المعبر عنها بطرق مختلفة منذ أيام. كيف تتحول حركة مناضلة طيلة عقود ضد الاستبداد إلى حركة لا تستنكف عن تكرار كل خطاب الاستبداد ضد تحركات تعرف جيدا (بغض النظر عن خطاب المؤامرة) أنها اجتماعية تستمد مشروعيتها من الظلم الاجتماعي والانغلاق السياسي؟ كيف يمكن أن يتحول حزب أخرجته ثورة المظلومين اجتماعيا إلى قفل يغلق الباب أمام كل المظلومين اجتماعيا لمجرد أنه أصبح في السلطة وأصبح كل همه أن يبقى فيها؟ لماذا قررت النهضة أن ترفع عاليا خطاب الهيمنة وأن تنغلق عن أي مسعى لتحريك الأمور نحو الاستماع لطلبات الناس؟ كيف تحولت النهضة إلى حزب ضد الناس؟ يمكن أن نسأل أيضا، هل أن معاضدة رجال الأمن، والاشتراك معهم في إدعاء احتكار العنف الشرعي للدولة، يمكن أن يؤدي (تبعا لبروتوكول التدرج في استعمال العنف) إلى إطلاق عناصرها على سبيل المثال النار على المحتجين، أو استعمال هراواتهم ضد هؤلاء المراهقين ولو كانوا "مخربين"؟ هذه أسئلة يمكن أن يطرحها التعامل الميداني للعناصر "المعاضدة" إذا ما توجب عليها مواجهة المحتجين، ولا يمكن تجاهلها، للأسف. أعتقد أن أكبر مشاكل النهضة اليوم هو إيجاد الخطاب الملائم للوضع الحالي، وأن عجزها عن الفهم لا يضاهيه عجز أي طرف آخر بما في ذلك الحكومة. هناك نوع من القناعة بأن الاستقرار في الحكم يعني مواجهة المجتمع وميوله للاحتجاج، وفي الوقت نفسه إقرار بالعجز الفعلي، أو بعدم الرغبة في حل الإشكالات التي تمنع الناس من الحصول على حياة أكثر كرامة. نظريا، بل تاريخيا أيضا، هناك سير متسارع نحو نموذج نظري للهيمنة، لا ينتظر سوى الفرصة المؤاتية للتحول إلى استبداد. لا يمكن مصادرة حق الناس في المطالبة بنظام أكثر عدلا، وبدولة أكثر استجابة لهم، خاصة في نظام ديمقراطي أو يدعي أنه ديمقراطي. ما نعيشه اليوم هو مفارقة غريبة جدا: بعد احتكار الثورة ونقلها إلى دفترخانة الأملاك الحصرية، فإن ما يجري اليوم هو محاولة إيجاد درج آخر في نفس الدفترخانة للديمقراطية وللدولة. هذه هي مميزات الأنساق الكليانية عبر التاريخ: احتكار كل شيء والحديث باسم كل شيء، وطرد كل الآخرين إلى ساحة الخيانة والتآمر. هذا سيء جدا ولا يعد "بغد مشرق". كان يمكن للنهضة أن تنجز ما تريد في سياق استبدادي، أما في الديمقراطية، فهذا مسار أصعب بكثير. هذا باب مغلق يستحسن الاستعاضة عنه بطرق أبواب أخرى. هناك سؤال لا ينفك يقرع رأسي منذ أيام: هل أن ما "ثارت" من أجله النهضة، وما عارضت من أجله بورقيبة وابن علي، أكثر قيمة مما يعارض من أجله شباب الأحياء اليوم الدولة؟ هل أن مواجهة هؤلاء "المراهقيق المخربين" بخطاب التهديد باستعمال قوة "أبناء الحركة" هو أفضل ما يمكن طرحه من أفكار في مواجهة الأزمة الحالية؟ ما يجري للأسف هو تكرار لما حصل دائما: العجز عن مواجهة مطالب الناس الأكثر عدلا يؤدي بحسب نموذج النظام المطبق إلى أحد سبيلين: في الديمقراطية يؤدي إلى التنحي عن الحكم، أو إلى الدعوة لانتخابات سابقة لأوانها، أو إلى تغيير السياسات. في أنظمة الحكم الاستبدادي يؤدي ذلك العجز إلى مزيد الانغلاق، وإلى ترسيخ أساليب العنف ضد المجتمع من أجل خنق مطالبه، لكن ذلك ينتهي دائما بانتفاضات وثورات. المشكل أن النهضة اليوم، في سياق تخوفها من انتخابات قد تعطي المرتبة الأولى لغريمتها، لا تتبع السبيل العادي في سياق ديمقراطي (الاستجابة لطلبات الناس أو التنحي أو الانتخابات). هي تتبع السبيل الثاني، ولكن المشكل هو أنها تتبعه في سياق من الديمقراطية المفروضة طيلة العشر سنوات الأخيرة منذ الثورة. هناك شيء أكيد، سواء تحقق اليوم أو غدا: أن كل الميول الاستبدادية ستفشل في النهاية... سيكون على أصدقائنا في النهضة أن يختاروا (في المدى المتوسط) بين أن تتم الإستجابة لتلك الطلبات بهدوء، أو بثورة، أو بفوضى. هذا يتطلب مجهودا أكبر بكثير من إرسال "المؤمنين" للتصدي "للمخربين"....
  • 21 يناير 2021