لا بد من برلمان تونسي
"لا بد من برلمان تونسي"
في 1938، كان هذا الشعار يعني في الوقت نفسه أن يكون هناك دستور تونسي، وأن يعتمد نظام الحكم على الفصل بين السلطات، وأن يكون البرلمان بوصفه محتكرا للسلطة التشريعية، منتخبا انتخابا عاما ومباشرا. في الحقيقة كان هذا المطلب تطورا واضحا عن المطالبة بالعودة لدستور 1861 الذي وقع تعليق العمل به في 1864، والذي كان منحة من الباي لرعيته، منحة قدمها تحت ضغط القناصل الأوروبيين. كانت هذه إحدى نقاط تطور الحركة الوطنية التونسية الذي جسده الدستوريون الجدد مقارنة بالدستوريين القدامى: ليس العودة للدستور القديم وإنما وضع نظام سياسي يقوم على دستور جديد يمنح التونسيين حق انتخاب "برلمان تونسي". في نفس السياق التاريخي فإن الأمر بالنسبة للوطنيين كان يعني رفضا نهائيا لصيغ التمثيل التي جسدها "المجلس الكبير"، وهو مجلس يسيطر عليه الفرنسيون عبر نواب تعينهم الإدارة ويكونون ممثلين للموظفين، وآخرون تنتخبهم غرفتا الفلاحة والتجارة. أما "النواب" التونسيون، فكانوا أقل عددا من الفرنسيين، وكانوا معينين جميعهم من الإدارة. من هنا فإن رفض هذا الشكل من التمثيل كان يعني رفضا لمبدأ أن يكون "النائب" معينا، وأن يكون معينا من قبل السلطة الإستعمارية، وأن يكون هناك فرنسيون أصلا في مجلس تونسي، وأن يكون البرلمان عنصرا في منظومة دستورية تعطيه الدور التشريعي، وأن هذا المطلب لا يمكن التنازل عنه، وأنه الحل الوحيد للوضع. هذا هو معنى شعار "لا بد من برلمان تونسي" في سياق مظاهرة 8 أفريل 1938. ماهو السياق الذي يجعل لافتة حركة النهضة تحتوي هذا الشعار المستمد من مظاهرة 8 أفريل 1938 في حين أن السياق، تاريخيا، متباين: البرلمان الحالي هو برلمان تونسي فعلا، ويفترض أنه لم يعد موضوع مطالبة. إن المعنى هو أن البرلمان الحالي هو تحقيق لمطلب الحركة الوطنية. بما يعني دون كثير إطالة بأن النهضة تواجه التشكيك في أداء البرلمان الحالي الذي يرأسه زعيمها، ليس بالشرعية الإنتخابية لأغلبيتها النيابية فحسب، بل بالشرعية التاريخية للمؤسسة بوصفها متجذرة في وعي حركة التحرر الوطني. لكن المغالطة هنا واضحة أيضا: إن التشكيك في البرلمان الحالي ليس تشكيكا في ضرورة وجود المؤسسة، بل في قدرة استجابته، بأدائه الحالي، للهدف من وجوده في نظام ديمقراطي ودستوري. بل إن الإستجابة النسبية لمواقف الرئيس ضد المؤسسة لدى الرأي العام ليست ناتجة من قناعة الرأي العام بتوجهات الرئيس في هذا الموضوع، بل من حالة اليأس من رؤية البرلمان الحالي يحقق الهدف منه في نظام يفترض أن يكون ديمقراطيا. أعتقد أن المشكل الأساسي، بالنسبة لطيْف واسع من الرأي العام، ليست في وجود البرلمان، بل في أدائه. الرئيس يستفيد فقط من هذا المزاج الذي خلقه ذلك الأداء في معظم الأوساط. بالنسبة لمعظم التونسيين، يحتل البرلمان أدنى مراتب ثقتهم من ضمن بقية المؤسسات، وهذا أمر يعود أساسا لأدائه، وليس لأي دعاية مغرضة. لا أعتقد أن الإحتجاج بأي جذور تاريخية للمؤسسة ينفع شيئا عندما يرى الناس كل يوم أن البرلمان يبتعد عن الغرض الذي أنشئ من أجله، بل حتى عن طبيعة الدور الذي أريد له في تصور زعماء الحركة الوطنية في الثلاثينات وبعدها. هذا الإحتجاج بالجذور التاريخية لا يؤدي إلا إلى مزيد القناعة بالمسافة البعيدة بين ما كان للناس من انتظارات، وبين واقع البرلمان. تلك الإنتظارات كانت انتظارات حركة التحرر، لكنها كانت انتظارات متجددة باستمرار من جيل لآخر، وكانت مترسخة بشدة في وعي الثورة. إن حركة البيع والشراء التي تتم في البرلمان بسبب عريضة ما، أو قانون ما، أو انتخابات ما، عنصر أساسي في فقدان الإعتبار الذي يعاني منه البرلمان اليوم. هذا لا يمكن أن يكون مطابقا لانتظارات الناس من برلمان في نظام ديمقراطي حقيقي. لكن ذلك ليس إلا تفصيلا صغيرا في الأداء المهين للدبمقراطية الذي يتم في البرلمان. ماهو الفارق بين برلمان في نظام استبدادي وبرلمان في نظام ديمقراطي؟ أنه في الأول لا يعبر عن انتظارات الناس، وأنه يفترض منه في الثاني أن يعبر عن تلك الإنتظارات. هل يعبر البرلمان الحالي عن انتظارات الناس؟ إن التهديد الحقيقي الذي يواجهه البرلمان اليوم هو في تنكره لدوره، أو عجزه عن القيام به، وليس في الميول الشعبوية والفاشية. هذه الميول التي تلقى صدى واسعا لدى الرأي للعام ليست إلا نتيجة لذلك العحز ولذلك التنكر. المشكلة لم تكن أبدا مشكلة جذور، بل هي أساسا وحكرا، مشكلة أداء .
"