حول وهم
حول وهم "الحكومة الثورية"
هذه مفردة تتكرر منذ الإنتخابات، ولا أحد ممن نطق بها، من الأحزاب والإئتلافات التي جعلتها مضمون دعايتها منذ أسابيع، أزعج نفسه بأن يفسر لنا ماذا يقصد بحكومة ثورية. بعض الهمهمات، بعض الإيحاءات، تتلخص جميعها، في أن الحكومة الثورية هي التي لا تشارك فيها عبير ونبيل. طيب، وهبْ أنهما لا يشاركان، هل ستكون الحكومة المنتظرة ثورية بمجرد ذلك؟
عندما كانت المنظومة القديمة في أوج جبروتها، ذهب بعضهم يبحث عن تحالفات معها، من وراء الأبواب والستائر والناس. الثورية كانت آنذاك أن تتمترس في معارضة المنظومة، لا أن ترضى بفتاتها. ليس الثورية فقط، بل الواقعية أيضا. الإنتهازية ليس الواقعية.
المنظومة ليست عبير. هذه فقط بقايا جثة في طور التحلل، ولا بطولة كبيرة في جعلها مركز الكون، اللهم إذا كان المراد فقط التلذذ بدور المستهدف، ودور الضحية،
والتعبئة على أساس ذلك.
لنطرح عبير ونبيل، بل لنعتبرهما غير موجودين، فرضا يعني: ماهي الحكومة الثورية؟ وهل يكفي لكي تكون ثورية أن تكون هناك "ثورة مضادة"؟ هناك شيء ما يسير عكس اتجاه المنطق والتاريخ في نظري. منطقيا، يكون هدف الثورة المضادة تحقيق هزيمة الثورة، أما الثورة، فإن مهمتها هي الثورة! هكذا يفترض أن تسير الأمور.
في السياق الحالي ماذا يمكن أن نحدد كأهداف لثورة مماثلة منغرسة في سياقها الحالي، وفي ضمائر الناس وما يريدون، بل وما صوتوا، أو يفترض أنهم صوتوا، من أجله؟ هل من سياق ممكن، لثورة ممكنة، غير ترسيخ مُثل العدالة الإجتماعية وتثوير الممارسة السياسية بما يتلاءم مع تلك المُثل؟ لا ثورة تشبه أخرى في التفاصيل، ولكن لكل الثورات مُثل لا تختلف كثيرا عن بعضها عن بعض.
هل يمكن اليوم لأي إئتلاف يميني، ليبرالي، محافظ، أن ينجز أيّا من المهام التي يفترض بثورة مماثلة أن تحققها؟ سياقا، منطقا، وواقعا، هذا أمر غير قابل للتصديق، ولا للحدوث. المنظومة الحقيقية هي تلك الليبرالية الإقتصادية التي تبدأ وديعة وتنتهي متوحشة، فتجرف وتدمر كل مثل التضامن بين الناس، وتقضي في المحصلة على كل أمل في تحقيق عدالة اجتماعية تحفظ، على مدى بعيد، الكيانات الجَمْعية. أما في عالم المثل، فإن المنظومة الحقيقية هي الثقافة السياسية المحافظة، الحليف الطبيعي والتقليدي والوثيق، للمنظومة الإقتصادية الليبرالية. هذه الثقافة السياسية المحافظة، هل بإمكان أحد أن ينتظر منها تثويرا للطريقةالتي تمارس بها السياسة وكل الشأن العام؟ تاريخيا، هذا أمر لا أتذكر أنه حصل، وإلا لما سُمِّيت محافظة أصلا.
الثورة إذا، ليس كل الفولكلور حول عبير والمنظومة القديمة. الثورة الحقيقية، والتي يمكن أن تغير حياة التونسيين، هي تلك التي تستهدف، ثم تهزم، المنظومة الحالية، القديمة الجديدة، القائمة على هذا التحالف الوثيق، والمتعاون، والمصمم، بين التوجه الإقتصادي الليبرالي والثقافة السياسية المحافظة. كل منهما يحبس الطاقة التي تعتمل في باطن المجتمع، ولا يتصور أحد أن تتحرر تلك الطاقة دون تفجير الغطاء الذي يمنعها من التمدد.
لا أحد، من الأحزاب المتصدرة لمهام الحكم، ولا لاحتلال مقعد المعارضة، طرح شيئا كهذا، حتى الآن. هذا أمر متوقع من "إئتلاف الحكومة الثورية القادمة".ولكن هل بامكان أحد أن يبرر غيابه في الجهة الأخرى. ولكن حتى هذه مجرد تفاصيل في مشهد ليس بالدائم، ولا بالأفضل.
وحده الخليط الذي سيحقق التقاء هذين العاملين ( عدالة اجتماعية وتثوير الممارسة السياسية) هو الذي سيكون قادرا على تمثيل الطاقة التي تعتمل في أسفل البناء، والذي سيكون قادرا، لاحقا، على تفجيره واقتلاعه من الجذور. ليس ضرورة أن يكون ذلك نتيحة عمل عنيف، ولا انتفاضة مسلحة، ولا مظاهرات دامية. المنظومة التي يمثل الحزبان الأولان اليوم نواتها الصلبة والمزدوجة، هي ذاتها المنظومة القديمة ! عبير ليست إلا مجرد فلكلور لشيء انتهى، ولكن يُحتاج إليه، لمآرب أخرى.