كتاب "هزيمة الغرب".. جذور النيوليبرالية العدمية
"هزيمة الغرب" هو آخر كتب إيمانويل تود، وقد صدر قبل عام من الآن. لسوء الحظ، لم يحظ الكتاب بتغطية عربية تليق بمستوى ما يطرحه من إشكاليات، ولعل مرد ذلك عدم صدور ترجمة عربية له، أو الهجمات التي تعرض لها كاتبه بسبب تناقض أفكاره مع الدعاية الغربية إزاء الحرب الروسية الأوكرانية. قبل ثلاث سنوات، عرّب المؤرخ التونسي فتحي ليسير كتاب تود الصادر قبل "هزيمة الغرب" ("أين نحن من هذا كله؟ خطاطة للتاريخ الإنساني")، الذي نشر في سنة 2018، وهو كتاب هام ربما عدنا لعرضه في مناسبة أخرى.
واجه كتاب تود الذي نتصدى لتقديمه في هذا النص قدرًا محدودًا من الاهتمام في فرنسا، على الرغم من أن صاحبه هو من أكثر الكتّاب إثارةً للجدل في الساحة الثقافية والجامعية الفرنسية بسبب مقارباته للمواضيع التي يتناولها في كتبه أولًا، وكذلك بسبب خروجه من وظيفة المؤرخ لوظيفة المستشرف، وهو تمرين بالغ الصعوبة في الحقيقة.
واجه الكتاب بالفعل هجمات شديدة ومركزة أيضًا بسبب المواقف السياسية التي عبّر عنها تود، والتي جعلت خصومه يستسهلون تصنيفه من ضمن عناصر الدعاية الروسية في أوروبا. فلنفهم من ذلك أن أولئك الخصوم يصنفون أنفسهم من ضمن عناصر الدعاية الأطلسية والرسمية الفرنسية.
إيمانويل تود.. المنهج والموقف
إيمانويل تود غزير الإنتاج. هذه الغزارة تأتي من جمعه بين مهام المؤرخ والاهتمام بالتحولات الراهنة في الغرب، بما في ذلك بالعلاقات الدولية. يمثل تود الجيل الأخير من مدرسة الحوليات، وأحد مؤرخي التاريخ الجديد. في الحقيقة، فإن جزءًا من الهجمات التي يتعرض لها تود كمؤرخ تأتي من معارضين للتيار الجديد، وحتى من منكرين لمنهج مدرسة الحوليات، ما يجعلهم منطقيًا يمينيين كلاسيكيين. هنا وجب التوضيح أن من هاجموا تود كانوا في الغالب من ميدان العلوم السياسية، ما يجعل اعتراضاتهم على منهجه الأكاديمي غير ذي بال مطلقًا. معاملة تود كمختص في العلوم السياسية توجه خاطئ تمامًا. تود مؤرخ يستعمل كل المواد، ويطل على كل الاختصاصات، ليصنع معرفة استراتيجية أفضل، وليس تاريخية فحسب، تحطم الحواجز بين الإنسانيات. هو بطريقة ما ابن شرعي لمدرسة الحوليات التي تأسست في فرنسا قبل قرن من اليوم، والتي ثورت البحث التاريخي إلى الأبد.
ينبغي أن نفهم التركيز الذي تحظى به عوامل مثل الأنثروبولوجيا والديمغرافيا في كتابات إيمانويل تود بالمسار البحثي لهذا المؤرخ. هذا ليس توجهًا جديدًا، بل هو انتماء منهجي أصيل لإيمانويل تود يمنح كتاباته العمق الذي ينقص مؤرخين آخرين. جانب من الهجمات التي يتعرض إليها تود هي من هذه الزاوية مواقف من منهج الحوليات، وتوجس من تيار التاريخي الجديد.
مثّلت أطروحة إيمانويل تود لنيل الدكتوراه في التاريخ منطلق اهتمامه بالإضافات المهمة التي يمكن أن يقدمها التاريخ الكمي، وكذلك الديمغرافية التاريخية والأنثروبولوجيا التاريخية لعلم التاريخ. خصص تود هذه الأطروحة للنظم العائلية من خلال أربعة أمثلة لأوساط فلاحية في أوروبا، مركزًا على مسائل الخصوبة والزواج والوفيات. لا غرابة في أن يعتمد إذًا في دراسته "السقوط النهائي" الصادرة في سنة 1976، والتي "تنبأ" فيها بسقوط الاتحاد السوفيتي، على دراسة نفس العوامل التي يعتبرها مؤسسة في كل فهم لا لطبيعة المجتمعات فقط، بل لإدراك مستقبلها. أثار الكتاب آنذاك ضجة كبيرة، لكن تود سيقر بعد تفكك الاتحاد السوفيتي أن تأثير العوامل الديمغرافية في ذلك المصير كانت ثانوية. بيد أنه سيحافظ تقريبًا على نفس التمشي المنهجي، وهو ما نلمسه في عدد من الكتابات الأخرى، مثل كتابه الصادر في سنة 2001 بعنوان "ما بعد الإمبراطورية: سقوط الحكم الأميركي".
الكاتب الفرنسي إيمانويل تود (Getty/ ميغازين)
لا يتردد منتقدو تود في الإشارة إلى ماضيه الشيوعي لتفسير تعاطفه مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا. الحقيقة أن "هزيمة الغرب" ليس كتاب تود الأول عن العالم في ضوء هذه الحرب، حيث إنه أصدر قبله بسنة كتابًا بعنوان مثير "الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بعد". وبالرغم من أن هؤلاء لا يكلفون أنفسهم عناء تفسير علاقة روسيا اليوم بالشيوعية، فإن هذه التهمة تعني في الغالب استدعاءً لنوع جديد من الماكارثية من أجل محاصرة وجهات النظر غير المتبنية للسردية الأطلسية الرسمية تجاه الحرب الروسية الأوكرانية.
في مقال التعريف بإيمانويل تود على موقع "ويكيبيديا" في نسخته الفرنسية، أي النسخة الأهم بالنسبة لكاتب فرنسي، نجد تركيزًا كبيرًا على الماضي الشيوعي للكاتب، حيث ذهب كاتب المقال المجهول إلى البحث حتى في العادات الجنسية لجدته من الأم، وأصوله غير الفرنسية، ومعنى لقبه الذي يعني الثعلب في إحدى لهجات شمال بريطانيا. في المقال نفسه، نجد كل الأدلة على أن تود شخص "غير سوي من الناحية القومية"، فنصف عائلته يهودي، والنصف الآخر شيوعي، وهو نفسه انتمى في سنوات شبابه للرابطات الشيوعية وحتى للحزب الشيوعي، وإن كانت لفترات صغيرة.
لكن أعنف هجوم تعرض له كتاب تود الأخير وقع نشره على موقع جمعية جان جوراس الفرنسي. بالرغم من أنه يفترض بموقع يحتفي بإرث جان جوريس الاشتراكي أن يحاذر رغم كل شيء من الوقوع في الدعاية اليمينية، فإنه لا يمكن تصنيف نص أوليفييه شميدت الذي نشر تحت عنوان "هزيمة الغرب أم هزيمة سوق الأفكار؟" سوى باليمينية. يبدأ المقال بالاستغراب من قبول دار "غاليمار" نشر كتاب تود، "وهي في العادة دار نشر جدية".
ثم يستعرض شميدت ما يعتبره "نقاط ضعف منهجية فادحة تجعل من كتاب تود نصًا هزيلًا ومتهالكًا". ليس هذا مجال تعداد أفكار شميدت، لكنه حتمًا مجال تلخيصها: شميدت يلوم تود أساسًا على خروجه عن الدعاية الرسمية، وعلى تقديمه كتابًا يكرر عناصر الدعاية الروسية، مستغربًا في الأثناء استمرار بعض وسائل الإعلام في دعوته لبرامجها، في حين منع "تلفزيون روسيا" من التغطية في الدول الأوروبية.
هذا لب نقد شميدت لكتاب تود، أما باقي الانتقادات فعدد منها متهالك، مثل ذلك الذي يلوم تود على الاستناد إلى تحاليل ماكس فيبر حول البروتستانتية ونشأة الرأسمالية "في حين أن كثيرًا من المختصين ينتقدون هذه التحاليل". بالمناسبة، فإن أوليفييه شميدت، الشاب المختص في العلوم السياسية، يحوم كثيرًا حول المؤسسات ومراكز البحث الرسمية الأوروبية والأطلسية والأميركية، حيث يقدم خبرته للمؤسسات الحكومية كمختص في الحرب والبحوث الإستراتيجية.
بحسب الظروف، يقع تصنيف إيمانويل تود يمينيًا متطرفًا، أو شيوعيًا قديمًا في خدمة الدعاية الروسية. في كلتا الحالتين، فإن الرغبة في تشويهه ككاتب لدى الأوروبيين والفرنسيين بالخصوص تبدو جلية ولا تخفي نفسها. ما أسميناه الماكارثية الجديدة هو، في جزء منه، هذا السلوك ضد كل الكتّاب الذين يكشفون خواء الدعاية الغربية واعتمادها تكرار نفس الأكاذيب تجاه الحرب الروسية الأوكرانية.
تهدف الهجمات ضد تود إلى عزله، كما تم عزل عدد من المثقفين من قبله بتهم أخرى عدة مثل اللاسامية، وترسيخ وجهة نظر واحدة في وسائل الإعلام والنشر، هي وجهة النظر الرسمية. بإلقاء نفسها إلى جانب الولايات المتحدة في النزاع الروسي الأوكراني، وتورطها بلا حساب في تسليح الأوكرانيين مبكرًا بالمدافع والذخائر والمدرعات، فقد دخلت فرنسا ساحة الصراع ضد روسيا، ما يجعلها قادرة على نقل هذا الالتزام إلى ساحات جديدة، واعتبار الدعاية إحداها.
الأنثروبولوجيا: التاريخ في زمنه البعيد جدًا
يدرك المختصون والمطلعون على تاريخ مدرسة الحوليات جذور نشأة الأنثروبولوجيا التاريخية كاختصاص على يد مؤرخي التاريخ الجديد في بداية سبعينيات القرن الماضي، ودورها في تنسيب، إن لم نقل تحطيم، الأنثروبولوجيا التقليدية التي كان كلود ليفي ستراوس أهم روادها إلى حين تلك العشرية. ليس هناك مجال للغوص في هذه المسألة المنهجية إلا من حيث تأكيد انتماء إيمانويل تود لمنهج الزمن الطويل الذي أسسه فرناند بروديل. مع بداية السبعينيات سيتحول مؤرخو التيار الجديد لدراسة مسائل مثل الموت، الزواج، القرابة، الولادة، العادات، وغيرها من المسائل التي كان الأنثروبولوجيون يعتبرونها اختصاصهم الحصري.
إيمانويل تود كان من ضمن هؤلاء المؤرخين. لكن سؤالًا منهجيًا ينبغي أن يطرح: هل يتيح إدراك العوامل البعيدة للمؤرخ الانتقال إلى مستشرف لمستقبل المجتمعات أو الكيانات السياسية؟ لا جواب نهائي أو حاسم هنا. في المقابل، يحاذر المؤرخ أن يعتبر إنتاجه الذي يجمع بين تحليل المعطيات التاريخية والاستشراف، كتابة تاريخية، وهو ما يتيح له أيضًا التحرر من الضوابط المنهجية التقليدية في البحوث الأكاديمية. يوسع المؤرخ بذلك جمهوره، ويقتحم ميدان الدراسات السياسية والاستشرافية، لكن منهجه الأصلي يبقى منهج المؤرخ حتى وإن أخفى ذلك.
مكانة العوامل الأنثروبولوجية في تفسير واقع ثم مستقبل الصراعات في العالم، وبصفة خاصة الصراع الروسي الأطلسي الذي يتم على الأراضي الأوكرانية، كبيرة جدًا في كتاب تود. السؤال الذي طرحه تود هو التالي: ما هو دور تركيبة العائلة في الانقسام الذي يشطر اليوم العالم بين الغرب وخصومه؟ يعني طرح السؤال بهذه الطريقة نوعًا من الحتمية التاريخية، بل والأنثروبولوجية، فحواها أن هذا الانشطار طبيعي، وأنه يجعل من الصراع الناتج عنه حتميًا عندما تسعى منظومة أنثروبولوجية وثقافية أقلية إلى فرض نموذجها على واقع أنثروبولوجي أغلبي في العالم. الحقيقة أن الحديث عن تركيبة العائلة لا يتوقف عند العائلة، إذ يمس بمسائل أخرى شديدة التعقيد: المحافظة والليبرالية، الدين والإلحاد، المنافسة والعدل إلخ. إن تركيبة العائلة في المستوى الأنثروبولوجي وكذلك نظام القرابة أمران محددان، من وجهة نظر تود، في توجه المجتمع ثقافيًا، وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.
هناك بحسب تود نظامان للعائلة والقرابة، نظام العائلة الثنائية، أي النووية، حيث ينسب الولد لأبيه وأمه في الوقت نفسه. ونظام العائلة الأبوية. أدى النظام الأول بالتدريج إلى انتزاع الأم مكانة تعادل مكانة الأب في العائلة بالنسبة للطفل، وعبر الحركة النسوية وحاجيات الاقتصاد وتطورات المجتمع على وقع الحروب والكوارث الديمغرافية وغيرها من العوامل، وصلت مجتمعات مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة إلى التعادل في التأثير بين المرأة والرجل، داخل الأسرة وداخل المجتمع. سيؤدي ذلك إلى شيوع الفكرة الليبرالية. لنعد إلى النموذج المقابل: العائلة الأبوية. بسبب أن الأب هو مصدر العمل والقائم بالإنتاج، فقد احتفظ بتأثير متعادل على بقية أفراد الأسرة، بما في ذلك الأم. يمارس الأب هنا سلطة أوسع من سلطة الأب في النموذج الثنائي، بما يعني أن النظام العام الناشئ هو نظام سلطوي، لكنه سلطوي يقوم على العدل. بسبب أنه لا يمكن الحديث في هذا النموذج عن حركة نسوية، وبالتالي عن ليبرالية، فإن الطفل سيعيد إنتاجه، وستترسخ بذلك المحافظة، في مقابل ليبرالية النموذج الثنائي حيث لا حدود للتنافس وبالتالي للحقوق. بذلك فإن ليبرالية الدول الليبرالية اليوم مستقاة من نموذج العائلة والقرابة السائدة في مجتمعاتها، والعكس بالعكس.
مع سقوط الإتحاد السوفيتي، ستعتبر الدول الغربية الليبرالية أن الوقت قد حان لنشر نموذجها في كل العالم، وأنه لا ينبغي أن تقف أي خصوصيات ثقافية محلية في وجه هذه الرغبة. كانت العولمة الاقتصادية تحتاج، بتعبير آخر، إلى إلغاء الاختلافات الثقافية الناجمة عن أنظمة القرابة. عبر خريطة اجتهد في تركيبها من مصادر مختلفة، يوضح إيمانويل تود أن النموذج الليبرالي ينحصر في فضاء جغرافي شديد الضيق بمقياس العالم، في وجه النموذج المقابل، حتى وإن كانت درجات الأبوية تختلف اختلافا شديدا في هذا الأخير من بلد لآخر ومن قارة لأخرى. تؤدي الليبرالية، وبالتالي العولمة، إلى انهيار فكرة الدولة القومية التي قام عليها الغرب، لصالح فكرة السوق، في حين تشتد النوازع القومية في النموذج الأبوي المحافظ، فتنشأ قوميات حريصة على استقلالها عن الأطماع الليبرالية الغربية ومتمسكة بخصوصيتها الأنثروبولوجية والثقافية التي تحدد أيضا طريقة تصرفها في الثروة المنتجة داخل المجتمع. يشمل ذلك فضاءات واسعة تمتد من إفريقيا جنوب الصحراء، حيث يقع طرد الفرنسيين لإحلال الروس مكانهم، إلى الهند والصين وروسيا وإيران وبعض بلدان أميركا اللاتينية ذات التقاليد الكاثوليكية والزراعية. ألا يتجانس ذلك مع فكرة البريكس؟
لنواصل مع التمشي الذي اعتمده تود: في حين تؤدي الليبرالية في سعيها المحموم نحو عالم بلا حدود تجارية وثقافية إلى نتيجتها المنطقية المتمثلة في هدم الدين، والغرق في ممارسات يعتبرها البعض شاذة تحت غطاء الدعاية للمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، فإن هذه القضية تمثل أحد خطوط الصراع بين العالم الليبرالي الغربي وبقية العالم حيث تسود الأفكار المحافظة، فتنشأ جبهة ثقافية تدعم الحس القومي غير المستند على الدين بالضرورة. من هنا فإن الدعاية ضد روسيا بوصفها أحد أكثر البلدان مقاومة للمثلية، لا يضعف بوتين بل يقويه في نظر شعبه، ويجعل النموذج الروسي المحافظ قادرًا على التحول لمثل يحتذى به خارج روسيا. تصبح المحافظة طريقة لدعم الصمود في مواجهة الليبرالية الزاحفة على العالم، ويفسر ذلك بسهولة قيام ذلك التحالف بين دول مثل روسيا وإيران والصين، والذي تبدو تمظهراته في مسائل عديدة، بما فيها الحرب الأوكرانية.
في روسيا، يقع إحياء الأرثوذكسية تحت إشراف الدولة ذاتها، حيث تلعب دورًا في تدعيم الحس القومي. نحن بإزاء كنيسة قومية تقاوم الانحلال الأخلاقي والعائلي الذي يرفعه الغرب اليوم كأحد أكبر نجاحاته. وهكذا، فبعد أن كان إلحاد النظام السوفيتي حاجزًا أمام إبداء المجتمعات المحافظة في فضاءات أخرى تعاطفا معه، فإن التحول الكبير الذي حدث منذ انهياره، والتقارب الذي حل محل النفور بين الدولة والدين، يمنح روسيا اليوم في العالم قوة معنوية غير متوقعة. يرفض إيمانويل تود الفكرة التي تقول إن المجتمعات الأبوية لا تعطي المرأة حقوقها. هي لا تعطيها الحقوق السائدة في المجتمع الليبرالي الغربي لأن الأمر لا يتعدى هنا حقوقًا ناجمة عن نظام اجتماعي معين، نسبي، وليس عن حقيقة أنثروبولوجية عامة.
تجاه الدعاية المثلية، ترفع روسيا راية المحافظة الأخلاقية، ما بعد الدينية، وتحقق بذلك نجاحات لدى فئات واسعة في المجتمعات الغربية ذاتها بإحياء تخوفات هذه الفئات الدينية والأخلاقية. يكفي أن نذكر هنا أن موضوع المثلية هو موضوع قار لدى التيارات الشعبوية التي تكتسح أوروبا الغربية، بما ينقل معركة الليبرالية إلى عقر دار الليبرالية ويضع النخب الغربية في وضع حرج في كل انتخابات ويطرح مسألة تحول الليبرالية إلى نوع من العدمية.
الغرب الصفري
صفر دين، صفر أخلاق، صفر ذكاء، صفر كاثوليكية، صفر بروتستانتية، صفر يهودية، وصفر دولة قومية، صفر ذاكرة. يكثر إيمانويل تود من هذه المفردات التي يستعملها كل مرة في نهاية تحليله لمظاهر حياة الغرب وتطور ممارسته الثقافية والقومية والسياسية. ينبغي أن نذكر هنا أن تعريف الغرب يطرح إشكالًا ما، وأن إيمانويل تود حسمه بطريقة مترددة. لنقل إن الغرب بالنسبة للكاتب ليس كل ما يقع غربًا، وبالتالي فإنه غرب سياسي وثقافي وليس غربًا جغرافيًا. تخرج إيطاليا وإسبانيا مثلًا عن غرب تود، كما تخرج منه كل دول جنوب أوروبا وكذلك شمالها.
الغرب الذي يتحدث عنه تود طيلة كتابه ويحلل أداءه وتطوراته وصراعاته، هو غرب أنقلوسكسوني بالأساس، بروتستانتي دينيًا، لكن دون حضور فاعل اليوم للبروتستانتية التي يقول إنها ماتت: الولايات المتحدة، بريطانيا، أستراليا، كندا، نيوزيلندا. ألمانيا وكذلك فرنسا خارجتان عن هذا الغرب، الأولى لاعتبارات أنثروبولوجية برغم بروتستانتيتها الأصلية (نموذج العائلة(، والثانية بسبب تبعيتها وعدم مشاركتها في القرار. أنثروبولوجيا يجد تود تقاربًا شديدًا بين كل من روسيا وألمانيا، بل يعتبر أن أحد أهداف حرب أوكرانيا الأساسية، وأهداف الأميركيين منها بصفة خاصة، هي منع التقارب الروسي الألماني، وبالتالي منع تشكل الفضاء الأوراسي. استراتيجيًا، يصر تود على أن القطبين الروسي والألماني سيجدان طريقة ما للتقارب بعد أن تكون روسيا قد حسمت حرب أوكرانيا لصالحها، لأن المصلحة الإستراتيجية للبلدين تقتضي ذلك.
تؤدي العولمة، في مرحلتها النهائية الراهنة، إلى موت الدولة القومية، باعتبار أن السوق القومي هو أهم ما ميز تاريخيًا تلك الدولة. شيئًا فشيئًا تقبل الدول القومية سابقًا بالخضوع لقوانين سوق معولم صيغت في مستويات أعلى من سياداتها القطرية، بل ولا تخدم بالضرورة بورجوازياتها المحلية. من الطبيعي أن ينشأ عن ذلك وضع يؤثر على سيادة هذه الدول فيما يخص القضايا الدولية. بالنسبة للولايات المتحدة، أصبحت أوروبا مجرد كيانات تابعة تلعب دورًا شبيها بما لعبته دول أميركا الجنوبية تاريخيًا، تخضع للتهديد بعقوبات تجارية فتحذو حذوها حتى في الصراعات التي ليس من مصلحة أوروبا أن تنفجر أصلًا. عادةً ما يقع تقديم الغرب كمنبع للثقافة الديمقراطية، ونحن نجد اللحظتين المؤسستين لهذا الانطباع في الاستقلال الأمريكي وكذلك في الثورة الفرنسية. غير أنه في حين لا يزال يقع النظر لروسيا، أو الدعاية ضدها، باعتماد الصورتين القيصرية والستالينية، فإنه لا أحد في الغرب يريد تذكر أن النازية والفاشية كانتا من أبناء الثقافة الديمقراطية الغربية.
كتاب "هزيمة الغرب" (غاليمار/ ميغازين)
يعتمد تود على الإحصائيات الأخلاقية، ويقصد بها إحصائيات الجرائم، للقول بأن الأرقام تؤكد معاناة الغرب من أزمة أخلاقية عنيفة، في حين أن نفس الأرقام توحي بتراجع التوترات الاجتماعية في روسيا. يرى الكاتب أن العائلة في أوروبا انتهت رسميًا بتقنين الزواج المثلي، حيث يؤدي هذا التقنين حتما لانهيار القيم الأخلاقية التي تغذي بها الأسرة التقليدية المجتمع. لذلك أسباب أعمق من صدور النصوص القانونية المثلية، وأهمها انهيار الروابط الدينية في المجتمعات الغربية. للبروتستانتية دور تاريخي هام في نشأة الدول القومية من خلال الدور الذي لعبته في تفجير سيادة الكنيسة الكاثوليكية على أوروبا، وتحطيم النظام الإقطاعي، ونشأة البورجوازيات، وبالتالي السوق القومية والمنظومة الرأسمالية. يتتبع تود تراجع الممارسات الطقوسية ذات الأصول الدينية للتأكيد بأن الغرب يعيش اليوم حالة الصفرية الدينية: ليس الزواج المثلي فقط، وإنما المشاركة في الأعياد الدينية وتراجع الدفن لصالح حرق الرفات ونهاية التعميد.
تؤثر نهاية الدين على علاقة الناس بالعمل وبالقومية وعلى نظرتهم للمال وللفن، وتحدد درجة توتر العلاقات داخل المجتمع. تنتصر الفردانية وقيم الربح السريع، ويتحول الإنسان من كائن اجتماعي منظم في أطر فوق ربحية، إلى مجرد فرد مستهلك للعولمة وغير محمي إزاءها بأي من الهياكل التي كانت تقف بينه وبين السوق في عصر الدول القومية. يبدو تفكيك الروابط الاجتماعية أمرًا لازمًا للعولمة، وكذلك تفتيت حضور الدين في المجتمع، لأن الهدف هو الحصول على مجرد مستهلكين لا تضامن من أي نوع بينهم. وقع الوصول إلى هذه المرحلة في نظر الكاتب في سنة 2000 عندما تم فرض الزواج المدني. لقد كان ذلك أهم مظهر من مظاهر موت المسيحية في الغرب الذي زادت في تأكيده قوانين "الزواج للجميع". الاحتفاء بوصول مثليين لمواقع القرار الأولى في الدول الأوروبية هو ترسيخ لانهيار الأخلاق الدينية، ومحاولة تقديم المثلية كنمط اجتماعي وثقافي جديد لتغطية الفراغ الذي تركه انهيار الدين.
النيوليبرالية، حسب نظر الكاتب، هي مجرد نظام ربح بلا أخلاق تنظم المجتمع. من خلال النيوليبرالية، أفقدت العولمة المجتمعات تماسكها وقدرتها على بناء إيديولوجيات بديلة وحمائية، وعلى معاملة المجتمع ككتلة متضامنة وبالتالي التشريع لها على هذا الأساس.
انعدام القيم الأخلاقية وانتصار الربح كقيمة وحيدة، مع ما يتبع ذلك من ممارسات ثقافية وتشريعية شاذة، لا تؤدي إلا إلى العدمية التي أصبحت ثقافة النموذج النيوليبرالي. اقتصاديًا، دمرت النيوليبرالية قيمة العمل نفسها، وانتصر نموذج الربح السريع بغض النظر عن صدوره عن أي قيمة إنتاجية. يفسر إيمانويل تود بعضًا من ذلك عبر الاستشهاد بالإحصائيات التعليمية، حيث يلاحظ انهيار دراسات الهندسة في الغرب، وانفجار أعداد المرسمين في اختصاصات التجارة من بنوك وبورصة وغيرها. يمكن أن نجد في ذلك تفسيرًا في عجز الغربيين عن إنتاج ما يحتاجه الأوكرانيون من ذخائر المدفعية مثلًا.
على العكس من ذلك تمامًا، نجد أن دولًا مثل روسيا وإيران والهند والصين تسير في اتجاه تدعيم الشعب التعليمية الهندسية، ما يجعلها قوى المستقبل اقتصاديًا وتقنيًا. بالنسبة للدول الغربية، يقدم تود دلائل على أن جانبًا هامًا من المرسمين في الدراسات الهندسية والمشتغلين فيها هم في الحقيقة أجانب أو ذوي جذور أجنبية. التقنية من هذا المنطلق أداة فعالة في صناعة الشعور القومي باعتبارها تؤدي إلى تحقيق الاستقلالية التقنية. انعكاسات فقدان السيادة على التقنية لا تقل عن انعكاسات تراجع الممارسات الدينية أو زيادة المعدلات السنوية للجرائم.
دون أن يسميها مباشرةً، فإن الكاتب يقودنا إلى اعتبار أن الشعبوية التي تتصاعد في عالم اليوم، ليست إلا ردة فعل على عدمية النموذج النيوليبرالي للعولمة. أدت هذه الأخيرة إلى تدمير الأسس التقليدية للمجتمعات الغربية، من طبقات وثقافة ذات جذور دينية، وعائلة، وقيم. عدمية أو صفرية حضارية لا تمس فقط من عالم القيم، وإنما تنعكس ضرورة ومباشرة على الأسس المادية للدولة القومية، مثل التقنية والسوق، وبالتالي الشعور القومي والقدرة على تمثيل المجتمع. لكنها أيضًا عدمية يرافقها تصاعد كبير للممارسات العنصرية وللعنف الذي لم يعد يعرف أي حدود من قبل إمبراطورية العالم الحالية، الولايات المتحدة الأميركية. تقود أميركا العالم اليوم نحو تعميق صفريته وبالتالي تفتته وتبعيته لها كممثلة لهذا العالم الصفري، ما يتسبب في مزيد من التوتر الدولي في مواجهة نماذج ثقافية واقتصادية وقومية أخرى، وتشن عليها الحروب الأعنف فالأعنف من أجل تدمير خصوصياتها التي تحميها من التفتت لصالح النيوليبرالية. هذه بعض الاستنتاجات من كتاب تود، والتي تؤدي لا لفهم طبيعة المعركة في أوكرانيا، بل في غزة أيضًا التي خصص لها المؤلف صفحات في نهاية الكتاب.