التاريخ من أسفل.. قراءة في كتاب "انعكاس الظل" للمؤرخ التونسي لطفي عيسى
"انعكاس الظل" هو عنوان الكتاب الثالث عشر للمؤرخ التونسي لطفي عيسى، وقد صدر عن دار سوتيميديا للنشر بالتزامن مع كتابه الرابع عشر "يأتيك بما لا تنتظر". الكتابان مخصصان في الحقيقة للتأمل في مسيرته كباحث ومؤرخ ومؤطر وناشط في الحياة الثقافية والجامعية والمدنية. يصدر الكتابان بعد مغادرة الأستاذ لطفي عيسى الجامعة التونسية للتقاعد بعد حوالي ثلاثة عقود ونصف من النشاط الأكاديمي تدريسًا وبحثًا ونشرًا وتأطيرًا. هذه لحظة وجودية حقيقية ينظر فيها الفرد خلفه أكثر من نظره أمامه، وهذا ما فعل لطفي عيسى في الكتابين، وبصورة خاصة في "انعكاس الظل".
ينسل لطفي عيسى بيسر لقضية الأمة والوطن، طارحًا من وجهة نظره ما يعتبره إحدى إشكاليات الممارسة السياسية في الفضاء المغربي عمومًا والتونسي خصوصًا
الحقيقة أن الظلّ الذي صاحب مسيرة لطفي عيسى العلمية والأكاديمية كثيف إلى حد الامتلاء. لقد صنع الرجل مساره الخاص، وترك في البحث التاريخي التونسي بصمته التي ستستمر طويلًا في اعتقادي. وإذا عدنا إلى عدد الكتب التي نشرها المؤرخ المختص في تاريخ الذهنيات والتاريخ الثقافي، فإن الأمر لا علاقة له أبدًا بإسهال كتابة. ينحت لطفي عيسى الجملة كما ينحت الفكرة والكتاب، فيصدر نصوصًا تحمل الكثير من مهجته كباحث يحمل على كتفيه أبلغ من همّ ملء مقعد تدريس في جامعة ما. يعرف من يقرأ للطفي عيسى أنه يحمل القضايا التاريخية والمنهجية على أقصى محمل الجد، وأنه شديد الصرامة مع ما يكتب. ليس في القول بأنه أغنى المكتبة الجامعية التونسية والمغاربية بكتب ومقالات ذات قيمة عالية -إذن- أي مبالغة.
ليس "انعكاس الظل" مذكرات، بل تاريخًا ذاتيًا، أو تأريخًا للذات كما يريد أن يؤكده الكاتب بنفسه من المقدمة إلى الخاتمة. يخصص لطفي عيسى فصلًا وحيدًا للحديث عن نشأته إلى حدود التحاقه بالجامعة طالبًا بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، فصل متعجل يخفي حرجًا ما من طرح حياته الخاصة على الملأ. لم ينفع لإزالة هذا الحرج كل ما حبّره المؤلف في هذا الفصل للإقناع بأهمية التأريخ للذات، وكل الاستشهادات التي أوردها حتى من باب علم النفس لاجتياز العقبة النفسية التي تشكّلها الكتابة عن الذات. كثّف لطفي عيسى في هذا الفصل نفسه، فاجتاز مراحل الطفولة والمراهقة وسني الشباب الأولى بعجالة تفضح كثيرًا من التواضع. لكنه يبقى مع ذلك أول المؤرخين التونسيين كتابة عن أنفسهم. هذا ليس عيبًا في نهاية الأمر.
"انعكاس الظل" هو عنوان الكتاب الثالث عشر للمؤرخ التونسي لطفي عيسى، وقد صدر عن دار سوتيميديا للنشر
كمؤرخ يكتب عن مؤرخ، فإنّ ما التقطته من الفصل الأول هي الصور التالية: طفولة بسيطة في ظلال المدينة العتيقة بالقيروان، مداخيل عائلية متواضعة كانت بالكاد تكفي ضروريات العائلة، ساعات طويلة في المكتبة العمومية لم تنجح في إقناعه باختيار شعبة الآداب مبقية بذلك على شغفه بالرياضيات، مسح واسع لعيون الأدب العربي والفرنسي والإنجليزي، ولع جامح بالسينما، مأساة فيضان 1969 وجرح غائر من الأب، أمنية لم تتحقق بإكمال الدراسة في كندا في ميدان السينما حتى لكأنه جاء لاختصاص التاريخ اضطرارًا، سكينة الجامع الكبير، روح المدينة، روحانية المناسبات الدينية، مراهقة خجولة، صداقات منتقاة لتحطيم الانطواء، تساؤل عن الأصول، أشياء أخرى متفرقة، قبل أن نعرف لطفي عيسى باحثًا ومدرسًا في النصف الثاني من الثمانينات. هذا أقل مما هيّأنا له الكاتب عندما تحدث عن الحميمية، وعن كشف الذات، ولكنه تحفظه الذي عُرف به بيننا دائمًا قد طغى عليه.
بالنسبة لمؤرخ يكتب عن مؤرخ، هذا في الوقت نفسه، كاف لنتتبع أثر التنشئة في اهتمامات المؤلف البحثية. هناك خيط ينظم علاقة أصول لطفي عيسى بمسيرته البحثية، وهذا الخيط ينبغي البحث عنه في سكينة المدينة العتيقة، ظلالها المريحة، جامعها العتيق وأطلال تاريخها التليد. لا يلبث المؤلف إذن أن يغلق بسرعة هذه الكوة الصغيرة على ذاته لينطلق في التأريخ لبحوثه، أو بالأحرى لاختياراته البحثية. بالنسبة لمؤرخ أيضًا، يتعلق الأمر من هنا فصاعدًا بإشكاليات من صميم النشاط البحثي وقضاياه المنهجية.
يلخص لطفي عيسى غايته من وراء الاهتمام بالشأن العام، في عبارة "إعادة تشكيل الضابط الاجتماعي" عبر إحياء سلم قيم يحيي "الحياة الروحية" التي تعني بالنسبة إليه، "الفضيلة" المدنية العصية على الاستغلال السياسي والبعيدة، عن منال أي تطويع قصير النظر
لروحانية مدينة القيروان أثر كبير في مسيرة لطفي عيسى البحثية. لقد علّمته المدينة الغارقة في الزمن أن هناك أشياء من عوالم الروح لا تقل أهمية عن علاقات الإنتاج وعن الصراع السياسي الفج. سيترك المؤرخ الدولة ومصادرها، ليغوص في تمثلات خارجة عنها وإن لم تنفها تمامًا، من خلال مصادر أنتجها آخرون من غير موظفيها أو مستلزميها. المجتمع من أسفل وليس من أعلى؟ هذا افتراق أول عن منهجية المعلم الذي احتضن المؤلف في خطوات بحثه الأولى، الأستاذ محمد الهادي الشريف، "سي حمادي"، الذي يخصص له لطفي عيسى صفحات من العرفان. يتهيّب المؤلف معلمه ويحسب كلماته كثيرًا في الحديث عنه، حتى لكأنه يخشى أن يكتب شيئًا لا يرضاه. في الأسلوب عرفان أكبر من الكلمات.
لنعد إلى موضوع اختيار الروحاني كمنفذ للدراسة التاريخية حول بلاد المغرب، ذلك الذي كان "جاك بيرك" من أول مدشنيه كمنهج في البحث. "التاريخ غير المرئي لمجال المغرب" هو تاريخ حقيقي، بمعنى أنه وجد حقيقة، وأن من فضائله تغطية نقص كبير في المصادر واضطراب شديد في الاستنتاجات بسبب تشظي المجال المغربي كنتيجة لانهيار السلطة المركزية ودخول المحتلين الأجانب وتمزيق ما بدا قبل ذلك كوحدة مجالية مندمجة حول الدولة. هنا، فإن المادة الفقهية تعد بفتوحات معرفية كبيرة، حيث تفتح على مسائل كالممارسة المتصوفة، وتاريخ الذهنيات، وطبيعة المجتمع الذي انتظم حول الفقهاء والمتصوفة.
ليس "انعكاس الظل" مذكرات، بل تاريخًا ذاتيًا، أو تأريخًا للذات كما يريد أن يؤكده الكاتب بنفسه من المقدمة إلى الخاتمة
تسمح مدونات المناقب والنوازل للطفي عيسى بالإمساك بتاريخ الذهنيات، بخيط ناظم بعيد في الزمن يصنع الإنسان والمجتمع أكثر مما تصنعه الدولة ومصادرها. هناك نوع من التاريخ الطويل تسمح بكشفه هذه المصادر، حيث تزيد الحاجة إليها في قرن عصيب كالقرن السادس عشر. يجسر لطفي عيسى في هذا القرن الممزق ما ثلمته الغزوات والحروب وتتالي الحكام وقبول أو انتفاض المحكومين وينفذ إلى ما هو مستقر. متأثر بما يحصل، ولكنه مستقر: الذهنية. سيخصص لطفي عيسى جانبًا كبيرًا من أبحاثه لقضايا الذهنية والذاكرة والتمثلات، متخلصًا منها إلى التاريخ الثقافي الذي جعله اختصاصًا له يقدم به نفسه ويعرفه به الآخرون.
ينسل لطفي عيسى بيسر لقضية الأمة والوطن، طارحًا من وجهة نظره ما يعتبره إحدى إشكاليات الممارسة السياسية في الفضاء المغربي عمومًا والتونسي خصوصًا. كيف يمكن رفع القداسة عن الفعل السياسي بوصفه مجالًا للمناكفة والصراع، وفي الوقت ذاته رد الاعتبار للحياة الروحية بإحياء الحضور المدني للفضيلة؟ كيف يمكن في الوقت نفسه أن نحتاط لتحول الفضيلة إلى وصاية تنتج عنها بالضرورة نقاشات عقيمة حول هوية المجتمع؟ كيف نتلافى أن تكون الحداثة معلنة فقط، وأن يكون تحرر الأفراد مجرد شعار؟ هذه إشكالات راهنة جدًا لا تخرج بالضرورة من ميدان عمل المؤرخ ولكنها لا تكتفي به. هذا ما يسميه المؤلف بالفعل "جرعة" يحسن التمسك بها، ومنها قرر "التسلل" للاهتمام بالشأن العام.
يوجّه لطفي عيسى نقده للبحث العلمي في الجامعة التونسية يمنة ويسرة.. تراجع اهتمام الدولة بالبحث لا يفسر هذا التقصير في النظر إلى المجال المغاربي كمجال يسمح بأن يكتب تاريخه بطريقة غير تلك الممزقة والمجزأة والمنطوية
يثري لطفي عيسى منذ سنوات المشهد الثقافي العام بالكتابة في الصحافة، وعبر "خربشاته" على مدونته الشخصية على الإنترنت، وعبر مشاركاته في عدد من البرامج الجدية إذاعة وتلفزيونًا، رافعًا من مستوى التبادل وموجبًا للاحترام. يصرح المؤلف بغايته من وراء هذا الاهتمام بالشأن العام، وهو ما يلخصه في عبارة "إعادة تشكيل الضابط الاجتماعي" عبر إحياء سلم قيم يحيي "الحياة الروحية" التي تعني بالنسبة إليه، "الفضيلة" المدنية العصية على الاستغلال السياسي والبعيدة، باختراقها للسلم الاجتماعي، عن منال أي تطويع قصير النظر.
وبالعودة إلى مسألة الولوج إلى التاريخ من باب البحث في الذهنيات، فإن ما يصح تونسيًا، يصح مغربيًا. كان القرن السادس عشر فاتحة عصر عصيب على كل ساكنة المنطقة من تونس إلى المغرب: صراعات لا تنتهي بين المركز والقبائل، تعدد مراكز الحكم واقتتالها، تدخلات أجنبية دامية، تفكك مجالي واسع، مع انهيار في مداخيل التجارة وتراجع في النشاط الزراعي. لن تعود بلاد المغرب إلى ما كانت عليه أبدًا بعد هذا القرن الممزق. ما الذي يمنع نشوء بحث تأليفي حول المنطقة يحيّن، يضاهي، ينقد أو يكمل ما بدأه عبد الله العروي؟ يوجّه لطفي عيسى نقده للبحث العلمي في الجامعة التونسية يمنة ويسرة، ولا يعفي منه حتى مجموعات البحث التي انتمى إليها ردحًا من الزمن. تراجع اهتمام الدولة بالبحث لا يفسر كل شيء. تراجع مكانة البحث العلمي أصلًا عاجز عن تقديم إجابة لكل هذا التقصير في النظر إلى المجال المغاربي كمجال يسمح بأن يكتب تاريخه بطريقة غير تلك الممزقة والمجزأة والمنطوية، مثلما يفعل منذ عقود.
يصدر كتاب لطفي عيسى الأخير، بعد مغادرته الجامعة التونسية للتقاعد بعد حوالي ثلاثة عقود ونصف من النشاط الأكاديمي تدريسًا وبحثًا ونشرًا وتأطيرًا
يتبنى لطفي عيسى في الفصل الذي خصصه لكتابة تاريخ المغرب المقارن، وإن بعجالة، الانتقادات التي كان العروي قد وجهها للمؤرخين الفرنسيين، من أكثرهم استعمارية إلى أكثرهم ليبرالية، لكنه يوسعها إلى "المؤرخين الوطنيين". هناك جهد ضخم ينبغي أن يبذل، ولكن لا أحد يفكر فيه فيما يبدو: الاشتغال على التاريخ المقارن للمنطقة المغاربية، على الأقل بالكثافة نفسها التي اشتغل بها على تاريخ علاقتها بالمشرق. بالنسبة للطفي عيسى، فإن البحوث التاريخية لا تزال تتجاهل الحاجة إلى بناء "مشروع سردية جمعية موحدة لساكنة مجال المغارب، قادرة على رسم أفق مستقبلي أفضل لجميعها".
يستعرض المؤلف في الأثناء إسهامات هشام جعيط في مجال الإسلام المغربي، أو "الإسلام في المغرب" كما يصر أن يسميه أستاذنا الكبير، ودوائر انتمائه الحضارية العربية والإسلامية والإفريقية والمتوسطية والأوروبية، وإسهام الغيريات المختلفة في عملية بنائه عبر الزمن. هناك شبه بين هشام جعيط وجمال حمدان في موضوع الانتماء الأصيل الذي يهضم كل وارد ويعيد صياغته بما يحيل على انتماءات حضارية وتاريخية معقدة ومنغرسة في الزمن، هي من مميزات مجال بلاد المغرب وصخرة تاريخها الأم.
بالنسبة للطفي عيسى، فإن البحوث التاريخية لا تزال تتجاهل الحاجة إلى بناء مشروع سردية جمعية موحدة لساكنة مجال المغارب، قادرة على رسم أفق مستقبلي أفضل لجميعها
تلخيصًا، يقول لنا المؤلف إنه فيما عدا عبد الله العروي وهشام جعيط، لم يسكن أي جهد بحثي في المنطقة، على امتدادها، بمفهوم الأزمة بمعناها التأليفي وعبر منظور الزمن الطويل، والذي حال بين هذه المنطقة واكتمال مسارها التاريخي. في المقابل، يتواصل "طحن الفراغ" في جامعات المنطقة ومراكزها البحثية، ويغيب عن منشطيها وعناصرها "أفق سياسي ينطوي على خطة ملموسة قادرة على تفعيل شراكة حقيقية".
يطرح لطفي عيسى في فصله الختامي ما أشار إليه طويلًا دون أن يسميه: مشروع متكامل لمعرفة بلاد المغرب من أسفل، من حياة أفراده الروحية وعلاقاتها بالمجالين الاجتماعي والثقافي. نوع من مواصلة جهد "جاك بارك"، ومواصلة جهده الشخصي.
في المقابل، فإن ما يجري منذ عقود هو إمعان في دراسة "أحوال السطح وتقلباته"، دون نفاذ إلى الأعماق أو اتصال باللاوعي الجمعي لساكنة المنطقة، سواء تعلق الأمر بأحداث "مفصلية" أو مسارات حكم أو تفاصيل صراعات مهما كبرت. دراسة تأليفية لمجتمع بلاد المغرب من خلال المصادر التي تضيء على مسارات الأفراد العاديين، عبر النوازل مثلًا، أو مسارات الصلحاء، عبر المناقب، أو أي مصادر أخرى غيرها تمكن من تعرية المشترك الروحي، الصخرة الأم، التي بني كل تاريخ المنطقة عليها في الحقيقة. هذا جهد يشير إليه لطفي عيسى بطريقة توحي بأنه يتركه للقادمين لمجال البحث في تاريخ بلاد المغرب، وكأنه، وهو يمضي للاهتمام بالأدب والرواية، يقول إنه سعى جهده، وأن الدور الآن على الآخرين.