ملاحظات حول
ملاحظات حول "مشروع لائحة تهدف لمطالبة الدولة الفرنسية بالإعتذار للشعب التونسي عن جرائمها في حقبة الإستعمار المباشر وبعدها"
قدمت كتلة إئتلاف الكرامة مشروع اللائحة تحت العنوان المذكور أعلاه لمكتب المجلس النيابي من أجل مناقشتها والتصويت عليها. هناك ملاحظات كثيرة يمكن الخروج بها من خلال نص اللائحة، وهي تتوزع بين تاريخية وقانونية وسياسية. ولكن في البداية، لنتفق على نقاط مبدئية لا يفترض أن تكون موضوع خلاف بين التونسيين:
- أول نقطة هي أن الإستعمار( هناك نقاش طويل حتى في استعمال هذه المفردة غير المحايدة التي تنطلق من فرضية أن البلاد كانت خرابا وأن فرنسا هي من قام بتعميرها) هو حدث تاريخي لا شك فيه، وأنه جاء في ظرفية انهيار للدولة التونسية، وأنه تسبب في تعميق التخلف الإقتصادي والإجتماعي لتونس ولغيرها من المستعمرات. هناك دراسات تبين كيف عمق الإستعمار هذا التخلف، وكيف عمق التباينات الإجتماعية والمناطقية،وكيف استغل إمكانيات المستعمرات لخدمة إقتصاد المتروبول.
- ثاني نقطة أن هذا الإستعمار نشأت عنه في عدد من المراحل مواجهات قاومته فيها فئات من أبناء البلاد، وأن هذه المواجهات انجر عنها شهداء وجرحى وأحكام بالسجن والنفي، وعمليات اجتياح واعتداء واغتصاب. كما انجر عنه استغلال لثروات البلاد الفلاحية والمنجمية، وافتكاك لأراضي القبائل وتوزيعها على المعمرين وحفر مناجم في أراضي أخرى لاستغلال مواردها لفائدة شركات استعمارية أو لفائدة الدولة الفرنسية.
-ثالث نقطة: أن ما بقي من الدولة التونسية كان إجمالا في حالة خضوع للإدارة الفرنسية، من الباي إلى شيخ التراب، ما عدا استثناءات قليلة وفي أوقات معينة. لكن الدولة التونسية بقيت قائمة قانونا، وأنها سمحت عبر اتفاقيات أهمها اتفاقية القصر السعيد واتفاقية المرسى لفرنسا بإجراء "الإصلاحات الضرورية" كافة، إضافة للأوامر العلية الصادرة عن الباي، وقرارات الكاتب العام للحكومة التونسية (كان فرنسيا، ويعتبر رئيس الإدارة)، بل وحتى للمقيم العام باعتباره "قانونيا" وزير خارجية الباي".
- رابع نقطة، وهي النقطة الأخلاقية والأهم: أنه يفترض أن جرائم الإستعمار،وخاصة ما يتعلق فيها بالقتل، والاعتداء بالعنف أو بالإغتصاب، هي جرائم حقيقية، وأنها لا تسقط بالتقادم باعتبارها انتهاكات جسيمة (بلغة اليوم) لحقوق الإنسان في الحياة والكرامة. ما يعني أن أقل واجب للأجيال الحالية هو أن تحترم أرواح ودماء شهداء هذه البلاد، وأن تعتبر تضحياتهم عنصرا أساسيا في ما تنعم به هذه الأجيال اليوم.
-خامس نقطة: أن حركة التحرر الوطني مرت إجمالا (للتبسيط) بعدد من المراحل: مقاومة مسلحة لاحتلال البلاد (1881-1882)، ثم نشأة نخبة تطالب بتشريك التونسيين في إدارة شؤون البلاد (من جريدة الحاضرة إلى جريدة التونسي) ثم حركة إصلاحية دستورية تطالببتفعيل دستور 1864 دون مطالبة بالاستقلال (الثعالبي ورفاقه) ثم نخبة عصرية تطالب بإلزام فرنسا باحترام اتفاقية الحماية والتخلي عن سياسة الإستعمار المباشر (بورقيبة ورفاقه) ثم حركة سياسية ومسلحة انتهت باتفاقيات الاستقلال الداخلي والاستقلال التام، ثم معارك الجلاء حتى الجلاء الزراعي.
هذه النقاط هامة جدا لتأطير الموضوع من الناحية التاريخية، لأن هناك كثيرا من التاريخ في مشروع اللائحة (وإن ببعض الخلط)، وإدراكها يساعدنا على تحليل باقي جوانب الموضوع بطريقة أوضح (يتبع).
من ناحية قانونية صرفة، وهذه ليست مجرد تفاصيل، كان وجود فرنسا بتونس طيلة ثلاثة أرباع القرن، منظما بموجب اتفاقيات ممضاة بين دولتين، دولة فرنسا ودولة الباي. وعندما تحصلت البلاد على استقلالها الداخلي واستقلالها التام (هذا مصطلح قانوني صرف)، لم تكن هناك ضمن الإتفاقيات أي مطالبات بالتعويضات. الفارق هنا مع وضعية الجزائر واضح جدا، وهو أيضا فارق قانوني، حيث أن مطالب الإعتذار الجزائرية نابعة ليس فقط من ملاحظة الخسائر والضحايا والإستغلال، ولكن من أن صيغة الإحتلال، وكل ما تلاه، كانت بإعلان حرب من جانب واحد على الجزائر، وليس عبر اتفاقيات.
خلاصة الوضعية القانونية أن فرنسا دخلت تونس باتفاقيات وخرجت منها باتفاقيات، ولا يعني ذلك أنه لم تحصل جرائم وتجاوزات، بل نحن نوصف الأمر قانونيا فقط. نضال الوطنيين التونسيين طيلة عقود من الزمن، كان متراوحا كما أسلفنا في النقطة الخامسة من النص الفارط بين المطالبة بالتشريك في إدارة شؤون البلاد إلى جانب الفرنسيين، وبين المطالبة بتفعيل دستور 1864، وبين المطالبة بالتخلي عن سياسة الإستعمار المباشر والرجوع لمعاهدة الحماية. معنى ذلك فكرتان: أنه لم يكن هناك طيلة الفترة الإستعمارية من اعتبر الإتفاقيات غير قانونية، وأن الوطنيين بمختلف أجيالهم (الثعالبي، بورقيبة، حشاد إلخ) لم يشككوا مطلقا في شرعية الدولة التي أمضت الإتفاقيات عن الجانب التونسي.
ما قيمة هذه النقطة؟ أنها تجعل من موضوع مطالبة فرنسا بالإعتذار والتعويض نقطة بالغة الجدية، يجب الإشتغال عليها جديا من الناحية القانونية والتاريخية، وليس بمجرد إلقاء نص خال من أي من هذه الإعتبارات على قارعة الجدال السياسي المحلي.
ما يجعل لهذه النقطة شرعية أخرى هو أن نص اللائحة يتوجه للدولة الفرنسية حصرا، دون تحميل أي مسؤولية للدولة التونسية في الحصول على المطالب الواردة في النص. معنى ذلك ببساطة شديدة أنه لن يكون لهذه اللائحة حتى لو حظيت بتصويت كل نواب البرلمان، أي قيمة عملية، وأنه لن ينجر عنها أي إجراء واقعي. وهذا يطرح في الحقيقة السؤال التالي: ماذا تريد كتلة إئتلاف الكرامة فعلا من خلال طرح هذه اللائحة بهذه الصيغة: تحقيق الهدف المعلن لها، أم مجرد تسجيل نقاط في مناكفات داخلية؟
هناك قسم آخر هام من اللائحة يتمثل في الإشارات المتواترة لفترة ما بعد 1956، تحت عنوان مطالبة فرنسا بالإعتذار "عن خمسين عاما من مساندتها للإستبداد". دعنا من فترة بن علي، ولننظر في معاني هذه العبارة بالنسبة لفترات أسبق. لنفترض أن الإستبداد في فترة بورقيبة قد بدأ منذ الصراع الذي واجه فيه الحركة المناهضة لاتفاقيات الإستقلال الداخلي، أي الحركة اليوسفية (وهذا ليس رأيا خاطئا)، ولنترك بورقيبة جانبا بصفة مؤقتة: هل يعتقد أصحاب المبادرة أن من لاحقوا اليوسفيين بالإعتقال والتعذيب والتصفية كانوا فرنسيين أو من مرتزقة فاغنر؟ لا، مطلقا. كانوا رفاقهم في المقاومة المسلحة للاستعمار، وكانوا تونسيين مثل غيرهم يريدون استقلال بلادهم وتحررها من الإستعمار. الحديث هنا هو عن نزاع داخلي، نوع من الحرب الأهلية. طبعا كان هناك تدخل من فرنسا، وهو تدخل جاء بناء عن طلب من "سلطة شرعية" هي الحكومة التونسية التي عين الباي رئيسها.
لا، لسنا نهون هنا من قيمة التدخل الفرنسي في هذا الصراع، ولا من فداحة التجاوزات، بل نطرح نقطة قانونية أخرى: في نهاية الأمر ما هي الجدوى القانونية للائحة يتوجه فيها البرلمان بالخطاب لفرنسا، في خصوص نزاع تونسي تونسي، تدخلت فيه فرنسا بدعوة من أحد طرفي الصراع وهو طرف رسمي، وبطبيعة الحال من أجل تغليب شق على شق خدمة لمصالحها ولتلافي وصول الطرف المتشدد من بينهما للحكم. بتبسيط أكبر: أنت تتوجه بمطالب لدولة أخرى، وهذه الدولة لها مؤسساتها وقوانينها، وهي بالإضافة إلى ذلك طرف، فهل جهزت نفسك بطريقة تجعلك تواجه ملاحظاتها بنجاعة، وتنجح في الحصول على هذه المطااب. طبعا لا، لأن الأمر بالغ الجدية، ويتطلب عملا جديا، وليس ورقة أعدت على عجل بأفكار غائمة. اللهم إن كان الهدف هو مجرد إلقاء تلك الورقة جانبا بعد يوم من نقاشها.
هذه بعض النقاط القانونية التي تجعل من المشروع طرح جملة من الأسئلة: هل تريد الجهة المقترحة للائحة فعلا أن تحصل على مطالبها، وهو الإعتذار والتعويض؟ ألا تستوجب هذه المطالب التي تخص آلاف الشهداء، ومئات آلاف الضحايا طيلة كامل الفترة الإستعمارية على الأقل، تناولا أكثر جدية؟ هل أن طرح مبادرة بهذه الخفة يخدم هذه القضية أم يقضي عليها نهائيا؟ هل يمثل طرح هذه مبادرة بهذا الهزال، والتوجه بها للدولة الفرنسية، وعيا حقيقيا بتضحيات أجيال من التونسيين، أم استخفافا بها ومجرد متاجرة بقضايا كبرى في سوق محلية، ولاعتبارات محلية؟ هذه أسئلة سياسية يجاب عنها بمفردات سياسية.
في النص الفارط ركزنا على النقاط القانونية الواجب التعامل معها في خصوص مضمون اللائحة. لكن الإستعمار في تونس لم يكن ظاهرة قانونية فقط، بل ظاهرة استغلالية وعنصرية استخدمت الحيل القانونية بعد مسار للإنهاك والتطويع ضد تونس كنموذج عن بلدان أخرى شهدت نفس الظاهرة أيضا. لكن ذلك لا يضعف الجانب القانوني (باعتبار أن عملا جديا يروم الوصول لنتائج عملية يجب أن يعد ما يحتاج له من عدة)، مثلما أن الجانب القانوني لا يضعف بشاعة الواقع الإستعماري.
ماهو العمل الجدي الذي يمكن أن يصل لنتيجة في هذا الموضوع ذي الحساسية الخاصة؟ ماهي مقوماته العملية والمنهجية؟ أول هذه المقومات جعله محورا جامعا للتونسيين، وهو ما يتعارض كلية مع طابع المناكفة السياسوية التي يصطبغ بها اليوم. قرأت لبعض وجوه الجهة المحررة للائحة ما معناه أن الهدف هو الفرز بين الوطنيين والخونة. هذا أمر معيب في أدنى توصيف ممكن. كما قرأت لبعض الوجوه في "الدستوري الحر" وآخرين أن هذه اللائحة هدفها مهاجمة بورقيبة وجيل الحركة الوطنية. التعليق بعمق على هذا السجال مضيعة للوقت،لكن هذا يؤكد أننا بإزاء موضوع لا يهدف للانتصار للشهداء والضحايا، وإنما لمزيد تقسيم أحفادهم وزرع بذور الشقاق عميقا بينهم. هذا من المواضيع الجامعة، التي تتطلب تناولا جديا، ووعيا أخلاقيا بقداسته. من يريد فتحه بهذه الطريقة الهزلية لا يختلفون كثيرا في نظري عمن يعترض على فتحه بصفة "مبدئية" إشفاقا على رموز معينة.
من ناحية أخرى، ما معنى أن تنتج مؤسسة سيادية نصا لا يكفي فقط أنه مجرد استثمار في موضوع عظيم لغايات تكتيكية، وإنما لا أثر قانوني له؟ هذا ليس هدرا للتاريخ فقط بل هو أيضا هدر للسياسة. سؤال منطقي: لماذا التوجه بلائحة لدولة أجنبية، لن ينجر عنها أي أثر، في حين أنه كان بالإمكان توجيه الجهد نحو صيغة أخرى ممكنة: مشروع قانون ملزم للدولة التونسية، تقوم مؤسساتها بمتابعة تنفيذه؟ الجواب هو أنه لا رغبة في ذلك لاعتبارات لا رغبة لي في تفصيلها، وقد لا تكون للجهة المقترحة أيضا رغبة في تفصيلها.
يفترض في أي عمل جدي، أن يكون منطقيا قبل كل شيء، أي أن تكون له غاية، وأن يكون له أثر عملي. في هذه الحالة ماذا يفترض أن نصنع؟ أن نتعمق في الموضوع من مختلف جوانبه، وقبل ذلك أن نحرص على توفير شروط نجاحه، بأن يكون مضوع إجماع وطني، وهذا ليس مستحيلا. هناك في تونس مئات الكفاءات التي يشرفها أن تشارك في جهد مماثل، سواء تعلق الأمر بمؤرخين أو برجال قانون أو بمختصين في الإقتصاد. وهناك من ضمن مؤسسات الدولة الجامعية من يستطيع أن يسهم في هذا الجهد بطريقة فعالة. يبقى من المحصل منطقيا أن نص اللائحة كما قدم لا يوفر أيا من هذه الشروط ولا يثير حماس أحد ممن ذكرت، لأن المنهج خاطئ والسياق خاطئ والمقومات غائبة. لماذا لا يقدم للبرلمان مشروع قانون يحدث لجنة وطنية تكون مهمتها إعداد هذه المضامين، مهما كانت جهة الإقتراح. وأن يوضع في مشروع القانون غايته، وهي ضبط الأضرار وتقدير التعويضات، ويلزم مؤسسات الدولة بمتابعة الموضوع، وتُسَاءل عن تقدمها فيه. أعطي مثالا واحدا عن أهمية الخطوات الأولية: هل يعلم الناس أن "السجل الوطني للشهداء" وهي وثيقة رسمية، أهملت شهداء اليوسفيين وكثيرا غيرهم؟ أكثر من ذلك هل يعلم من وضع مقترح العريضة أن مطالبتهم فرنسا بفتح الأرشيفات غير ذات معنى تقريبا، باعتبار أن معظمها متاح قانونا للإطلاع، وأن جانبا كبيرا منها موجود في تونس ذاتها ؟
كل الخشية أن تتحول قضية بمثل هذه القداسة إلى موضوع استثمار تكتيكي، وأن يؤدي سوء تناولها لوأدها للأبد، وأن كل ما سينتج عنها لن يتجاوز في المحصلة حلقة أخرى مفزعة من مسلسل "قلب الذيب".