Veuillez patienter ...

بين النهضة وقيس

بين النهضة وقيس

بين النهضة وقيس ماهو الفارق، في الأصل، بين موقف قيس سعيد وموقف النهضة من موضوع طلب الإعتذار من فرنسا عن الفترة الإستعمارية؟ لا اختلاف مطلقا. عندما وقع تعديل لائحة ائتلاف الكرامة وأصبحت في صيغتها النهائية مقبولة، اختفى نواب النهضة في أسرع عملية إعادة انتشار في تاريخ البرلمانات، وقرأت لبعض قياداتهم كلاما متناسقا وعناصر خطاب مكررة: مصالحنا مع فرنسا كثيرة وكبيرة، وقد يفهم من اللائحة أنها عدائية ما يمكن أن يرجع بالضرر على تونس واقتصادها. هذا هو المضمون الذي برر به الأصدقاء فرارهم من التصويت. في نهاية الأمر، هل قال قيس سعيد كلاما مختلفا البارحة؟ لا، بالمطلق. قال أن الإعتذار يمكن أن يكون في شكل تمويلات وشراكات إقتصادية، ما يعني أن الإلحاح على طلب الإعتذار يمكن أن يحصل عنه ضرر اقتصادي لتونس. ليس هناك أدنى فرق حتى في طريقة التعبير بين النهضة وقيس سعيد. رأيي الخاص أن الإعتذار حق تونسي، وأن المستقبل الحقيقي يبنى على تقييم واضح للماضي، وأن الأنفة القومية التي تمنع فرنسا من الإعتذار، هي نفسها التي يفترض أن تجعلنا نصر عليه. لكن الموضوع ليس هذا بالنسبة للنهضة، وبالنسبة لقيس سعيد، وكل أولئك الذين يتحرجون من طلب الإعتذار. من هنا، فإن الحملة التي تقودها النهضة بوضوح ضد قيس سعيد ليست بسبب هذا الموقف المتطابق في الحقيقة وبالأدلة مع موقفها. هي فقط عنصر في استراتيجية هجومية شاملة تنطلق من جملة من المسلمات: - أولها استشعارها أن دورها في احتكار التعبير عن المواقف تجاه الوضع الإقليمي أصبح محل تهديد واضح، وأن رئيس الجمهورية لم يعد يأبه لرأيها في هذه المسائل. قد يكون ذلك من جهته سلوكا قابلا للنقد، لكن الموضوع برمته يعيد التساؤل حول مكانة النهضة في النظام السياسي، وهذا هو أصل الداء، وليس الموقف من فرنسا أو غيرها. - أما ثانيها فإصرار قيس سعيد على عدم توسيع الحكومة لأصدقاء النهضة من قلب تونس، واتفاقه في ذلك مع رئيس الحكومة الذي لا ينفك يكرر أن شرعيته مستمدة من تعيين قيس سعيد له. إضعاف الحكومة من الداخل، والمساعدة بالدعاية على مهاجمتها من الخارج، هو جزء مهم من خطة النهضة لإجبار الفخفاخ على توسيع الحكومة، لكن الجهد الأقوى هو منطقيا تجاه قيس سعيد. العملية برمتها تهدف لإعادة الإمساك بزمام الحكومة، بزيادة حضور الأصدقاء داخلها، والحد من "الأذى" الذي يسببه "الحلفاء" الحاليون. عصافير كثيرة بحجرة واحدة! - ثالثها: موضوع ليبيا. لا قيمة لمساندة النهضة لحكومة الوفاق إذا لم يؤثر ذلك على موقف الدولة التونسية ويدفعه في نفس الإتجاه من أجل تدعيم المحور المضاد لحفتر والقاهرة وأبو ظبي، وفرنسا ! رأيي الخاص أن زيارة قيس سعيد لفرنسا وطريقة تطرقه لهذا الموضوع لم تكن موفقة، ولكن الموضوع ليس رأيي الشخصي، بل خطة الطرفين في مواجهة بعضهما البعض. هل صرح قيس بموقفه ذاك كجزء من حرب المواقع مع النهضة وللتحرر من نظرتها للوضع الليبي والحلف الذي تنتمي إليه صراحة، أم انطلاقا من فهم مستقل عن هذه الإعتبارات للوضع هناك؟ السؤال في نظري هو هذا، ولكن الغاية تبقى نفسها: رئيس الجمهورية وليس أي أحد آخر هو من يعبر عن مواقف الدولة في السياسة الخارجية. هذا أمر لم يفوت قيس سعيد فرصة واحدة للإصداع به. في المحصلة إذا، لا علاقة للصراع بين النهضة وقيس بمضامين السياسة الخارجية بالضرورة، وإنما بمن يحدد هذه المضامين، وبمكانة كل منهما في النظام السياسي. أنا من الذين يعتقدون أن نفخ جهات كثيرة غير محايدة في نتائج زيارة الرئيس لفرنسا وتصويرها كنجاح باهر وتاريخي، ليس رأيا موضوعيا بقدر كونه تموقعا في الصراع بين قيس والنهضة. أعتبر شخصيا أن توقيت الزيارة كان خاطئا، وأن نتائجها كانت محدودة جدا، وأن النفخ فيها يأتي في معظمه انتصارا لقيس، في هذه المرحلة على الأقل، ضد النهضة. سياسيا وتكتيكيا هذا أمر مشروع وإن لم يكن أخلاقيا. هناك عقدة حقيقية في العلاقة بفرنسا تجعل الفرقاء لا يختلفون كثيرا عما يريدونه منها، ولكنهم يختلفون فقط حول هوية "الشريك المميز" لها في تونس، و"الممثل الشرعي والوحيد" لتونس تجاهها. بالنسبة للنهضة، هناك توجس وجودي من فرنسا ونخبها ودورها في تونس وفي المنطقة، ورغبة أكيدة في المقابل في التطبيع معها، ولكنه تطبيع من أجل القبول بها كمكون مؤثر وذي مصداقية في المشهد الرسمي التونسي، وليس تطبيعا هدفه تغيير ماهية ومضامين السياسة الفرنسية تجاه تونس، أو السياسة التونسية تجاه فرنسا. الأمر يتعلق فقط بالإشتغال على تحقيق نوع من المقبولية لدى فرنسا. ذلك فقط ما يفسر موقف نواب النهضة من لائحة الإعتذار في صيغتها النهائية، والمقبولة. يبقى أن نفخ الإعلام في نتائج الزيارة وكذلك قيادات الأحزاب المقابلة للنهضة، أمر مثير للإهتمام فعلا. ما حصل يضرب ثلاث عصافير بحجر واحد: إضعاف النهضة داخل المنتظم السياسي الحالي، وإضعافها إقليميا بنزع أي غطاء مؤسساتي عن مواقفها وتحالفاتها. العصفور الثالث هو طبعا تشجيع قيس سعيد على المضي قدما نحو تغيير طبيعة النظام السياسي بما يحرم النهضة من أي حضور قوي فيه مستقبلا، وضمه إلى نوع من التحالف الضمني الإستراتيجي ضد النهضة. أليس هذا الإلتقاء غريبا ؟ نعم، ولكنه تكتيكيا طبيعي، وإن كان غير أخلاقي. خطة النهضة الإستراتيجية في المقابل هي توريط قيس سعيد بإظهاره عميلا لفرنسا، وعاجزا عن حل مشكل الكامور، بنقل الكامور إليه في باريس. العملية طبعا تنطوي على مخاطر كثيرة بالنسبة للنهضة أساسا. ما حملته الدعاية النهضوية التي انطلقت البارحة يقوم على عناصر الخطاب التالية: قيس سعيد فشل في حل مشكل الكامور حيث وعد وأخلف. قيس سعيد شكك في حقيقة الإستعمار. قيس سعيد يضر بالمصالح الإستراتيجية للدولة في علاقة بالوضع في ليبيا. قيس سعيد متواطئ مع فرنسا في موضوع عقود البترول. هذه هي العناصر الأساسية في البروبغندا، والتي لا تؤدي إلى التخوين المزدوج فحسب (في علاقة بالاستعمار وبالعقود) بل إلى الإقرار بأن الرجل خطر على مصالح تونس "الحقيقية". سيستوجب ذلك مزيد تعفين الوضع في الكامور، وتعفين الوضع في الحكومة، أي افقاد الحكومة والرئيس أي مصداقية بهدف توفير الظروف لخلط أوراق جديد يعيد النهضة للتحكم في المشهد برمته. ولكن وهي تفعل ذلك تحت وقع الإحساس
  • 24 juin 2020