التطرف والإرهاب
التطرف والإرهاب: غربة التحديث وعودة البداوة
التطرف مسار عقلي، لا يمكن فهمه من خلال مظاهره الخارجية فقط والتي تمثل العمليات الإرهابية صورتها الأوضح. هناك تحول حصل في العمق بين نقطتين: نقطة أولى كانت تونس فيها رمز التحديث الثقافي في منطقتها وبيئتنا الإقليمية، ونقطة أخرى أصبحت فيها البلاد تقريبا أكبر مصدر للإرهابيين في العالم. مالذي حصل بين هتين النقطتين؟
مالذي حصل مثلا في ذهن تلك العائلة المتواضعة التي شجعت إبنتها على الدراسة وأرسلتها بعد ذلك (منذ قرن من الزمان) لكلية طب فرنسية تخرجت منها أول طبيبة تونسية، وبعد ذلك في ذهن موظف الإدارة، أو رجل التعليم، أو رجل الأعمال الذي يعتقد اعتقادا راسخا ، ونحن نغلق الخمس الأول من القرن الحادي والعشرين، أن المرأة كائن ناقص بالطبيعة، وأن المجتمع أفضل عندما تلزم بيتها ولا يكون لها خارجه أي وجود؟ ذهنيتان متناقضتان، وتطور معكوس، كما في المثال الأول !
هناك شيء حصل في الثقافة، وفي التربية، وفي الأسرة، وفي الشارع وفي العمل... شيء كانت نتيجته الظاهرة انهيار بطيء ولكن أكيد ومستمر في الأسس التي بنت عليها النخب تصوراتها للمجتمع. أرادت النخب التحديث، وتبنت الدولة لمدى طويل نظرة تلك النخب للتحديث، وكانت الأمور تسير في طريق قويم، إلى أن حصل شيء ما!
هل يمكن النظر للإرهاب، كسليل للتطرف، خارج ضديته للدولة بوصفها حاضنة للتحديث، وللمجتمع( أو للجزء المتقبل للتحديث في المجتمع)؟ لا معنى للتطرف خارج هذا السياق في نظري. هناك غربة متصاعدة للدولة عن المجتمع، وهي تتطور بالتوازي مع غربة النخب داخل المجتمع. انتشار التطرف يتوازى حتما مع انتشار الشعبوية بوصفها ترذيلا للنخب، ولكل ما يمكن أن تنتجه النخب. هذا في نظري هو السياق الكامل للصراع. هناك نوع مما يمكن توصيفه كرد فعل مجتمعي شامل retour de manivelle أو لجزء مؤثر داخل المجتمع (مؤثر بالعدد أو بالتموقع) على التحديث والدولة في الوقت نفسه، من فئات لم تجد نفسها في ذلك المسار أو كانت رافضة له ثقافيا واجتماعيا.
هذا مسار تقليدي بمفهوم الإجتماع الثقافي. يجب هنا العودة لابن خلدون. أستحضر هنا خطابا لبورقيبة، ألقاه بعد المحاولة الإنقلابية لديسمبر 1962، واستحضر فيه هو نفسه ابن خلدون: الصراع الأزلي بين البداوة والتحضر. بين الميل للنظام والنزوع للفوضى. من هذا المنطلق التحديث ليس إلا مضمونا لنظام، في حين أن التطرف ليس إلا أحد تعبيرات الفوضى. هذا هو الفارق بين التحضر والبداوة.
ما حصل بين النقطتين هو إعادة انتاج للتعاظل ambivalence الأزلي الذي عرفته البلاد منذ قرون: التحول الدوري الذي يشهد عليه تاريخ البلاد من المدنية والرقي إلى الترحل والتقاتل والاغتراب. بورقيبة تحدث عن حالة الإغتراب تلك، إغتراب بين الدولة والمجتمع، معتقدا أن بناء الدولة، ونشر التحديث ربما لم يكن رغبة الجميع... وأن النخب وإن نجحت لمستوى معين في دفع المجتمع دفعا نحو ذلك، فإن قوى مؤثرة بقيت تتربص بذلك العمل، في انتظار فرصة مؤاتية للإطاحة به.
هناك نص بليغ جدا للبشير بن سلامة في كتابه "الشخصية التونسية"، يرسم فيه هذا الصراع بين التحضر والبداوة، بين النظام والفوضى أورِد تلخيصا له هنا وأختم به. نص جميل، لأنه يعطي تفسيرا لبعض ما نعيشه اليوم، باعتباره نسخة جديدة من نظرية يقظة الفوضى وثأر البداوة من التحضر:
الصراع بين البداوة والتحضر، هو ما يطلق عليه البشير بن سلامة الصراع بين ثنائية أو بين روحين: "روح المقاومة المستمرة" (أي التمرد) و"روح التعاون والمؤالفة". فتاريخ البلاد التونسية هو صراع إذن بين الروحيْن: صراع بين الحضارة والوحشية، صراع بين روح الاستقرار والإنشاء وبين التهديم والوندلة والتخريب...فروح التعاون والمؤالفة سيصطدم دائما بظاهرة أخرى وهي التخريب والتهديم وروح الفتنة والتناحر وتقويض البناء عندما يشيد وتظهر مزاياه" . ولا يمكن لدولة الاستقلال في نظر البشير بن سلامة أن تشذ عن هذه القاعدة الأزلية حيث ستجد نفسها وهي تسعى لترسيخ روح التعاون والمؤالفة "وتكوين دولة قائمة الذات منيعة قادرة على إنشاء حضارة متميزة خلاقة آثارها باقية على مر الدهر" ، في وضعية صراع مستمر ضد روح المقاومة والمناوأة. ولكن هذه الأخيرة لن تأخذ لباس النعرات القبلية مثلما حدث في الماضي بل ستعود في شكل جديد، " في صورة أخرى قاتلة مخربة" مثل الانقلاب العسكري أو التمرد أو "المعارضة الهدامة"