قبل الصدام
قبل الصدام
مثلما أن خطاب الرئيس في عيد قوات الأمن الداخلي قد قطع خطوة حاسمة نحو توضيح رغبته في الإستئثار بالسيطرة على كل المؤسسات الحاملة للسلاح، فإن "تسريبات" البارحة قد قطعت هي الأخرى، من جهة المتبنين لها أو الداعمين لها أو المغتبطين بها، خطوة حاسمة نحو الصدام مع الرئيس.
بيان حركة النهضة الحامل لإمضاء رئيسها اليوم، قطع الشك باليقين: بطريقة مختلفة، يؤدي البيان نفس وظيفة "التسريب": إتهام الرئيس بالخرق الجسيم للدستور، مع ما يستتبعه ذلك.
لا أحد يصدق أن الفتى النبيه، صاحب التسريبات الخطيرة، يتصرف من تلقاء نفسه. على الأقل بالنسبة للرئيس فإن الأمر غير قابل للنقاش. هكذا نحسب. النسق التصاعدي للهجمات النهضوية والحليفة ضد الرئيس (غير المعصوم من الأخطاء، من بسيطها إلى أكثرها كارثية) منذ أشهر، وبالذات منذ التحوير الوزاري الأخير، لا يدع للشك مجالا في أن النهضة تبحث في الحد الأدنى عن إضعاف الرئيس وإفقاده اعتباره، وفي الحد الأقصى عن عزله.
تم كثير من هذه الهجمات بإسفاف كبير. وإذا كانت أخطاء الرئيس قد أبعدت عنه الكثير من مناصريه، فإن طبيعة هجمات النهضة والمستوى المتدني لها قد أتته بأنصار أكثر عددا من أولئك الذين لا يعتقدون في إمكانية إصلاح الأمور مع وجود النهضة في الحكم. هذا تحول خطير، فقد بدأ المتطرفون، من هذه الجهة ومن تلك، في الإستئثار بالمشهد، ثم في توجيهه وجهة قد لا تنتهي سوى بصدام دام.
حالة الزهو التي سبقت "التسريبات" في أوساط أنصار الإئتلاف الحاكم، والتي تناقلت أصداؤها تدوينات لعدد من قيادييه، تبين تحفزا للضربة القاضية. لقد حصلت في الماضي حفلات زهو كهذه، وكانت نتيجتها كارثية دوما: هناك نوع من الغرور الذي يحول، بسرعة خاطفة، كل الأماني لحقائق غير قابلة للدحض في خيال أصحابها.
نحن في حالة مشابهة اليوم. لا أدري إن كان أنصار الإئتلاف الحاكم قادرين على وزن الأمور بميزان العقل، أو أنهم قد انساقوا، مرة أخرى، نحو الأماني العذاب: التخلص بضربة دعائية من غريم صار يؤرقهم. ما يعرفه كل متابع موضوعي هو أن بلوغ أمنية مماثلة صعب المنال في سياق اليوم. هذا السياق، بغض النظر عن موقع كل منا فيه، هو سياق عدائي للإئتلاف الحاكم.
إن اتهام رئيس الجمهورية بالعمالة لجهة أجنبية وبتلقي الأموال والتعليمات منها ليس بالحدث العابر، خاصة في سياق الصراع الذي نشهده اليوم. تهافت الإتهامات وعدم قدرة أصحابها عن إثبات أي منها، سيجعلهم عرضة لتتبعات قاسية. لنتقدم خطوة أخرى للأمام: من سيكون بإمكانه بعد الآن الإفتاء بشرعية وسيلة دون أخرى في هذه المعركة؟ هذه خطيئة كبيرة سيدفع ثمنها غاليا وغاليا جدا.
ليس المجال مجال تذكير بتسلسل الأحداث الذي أوصلنا للأزمة التي نغرق فيها اليوم، ولكن من المهم بالذات أن نلحظ النسق السريع لتطور هذه الأزمة في الأسابيع الأخيرة، وخاصة غياب أي أصوات عاقلة تستطيع من الآن رؤية الدماء التي ستسيل حتما إذا تواصل ارتفاع حدة الصراع.
نجح الرئيس في تكتيل النهضة بكل أجنحتها ضده وخلف شيخها، لكن هل يكفي ذلك للفوز في الصراع ضد الرئيس؟ أشك في ذلك كثيرا. لكن الرئيس نجح أيضا في ترسيخ القناعة بأن أزمته مع النهضة ليست سوى وجه من أوجه أزمة البلاد الخانقة: يعتقد الكثيرون ممن يتجمعون اليوم حول الرئيس، خطأ أو صوابا، أن المعركة واحدة، وأن حسمها لا يمكن أن يتم دون مواجهة حاسمة مع النهضة، وهم لا يتأخرون عن إيجاد المبررات لمزيد دفعه في هذا الطريق. بل أكثر من ذلك، هناك من يمنحهم هدايا مجانية كبيرة لتدعيم وجهة نظرهم.
البلاد مقبلة على كثير من الدماء إن تواصل الوضع الحالي، وإذا لم يستطع أحد فتح ثغرة في جدار المواجهة بين الرئيس وخصومه. إن جزءا من مأساة اليوم هو إفشال مبادرة الإتحاد التي فات أوانها، ولا أعتقد أنها لا تزال، بصيغتها القديمة، قابلة للترويج. هذا يستدعي من الإتحاد، ومن كل من لهم بعض عقل، الإسراع بطرح أفكار جديدة تخفف من حماس دعاة الصدام. الأمر يتعلق بتحكيم، تحكيم صعب ولكنه غير مستحيل.