Veuillez patienter ...

L’occupation de la Palestine du point de vue de l’approche braudélienne. « La ténacité de la résistance est la preuve que la terre lui appartient ». interview aljazeera.net (en arabe).

L’occupation de la Palestine du point de vue de l’approche braudélienne. « La ténacité de la résistance est la preuve que la terre lui appartient ». interview aljazeera.net (en arabe).

الجزيرة. نت:   كيف يقرأ بروديل التاريخ وماهي نظرية الزمن الطويل

عدنان المنصر: يمكن القول دون تحفظ كبير أن فرناند بروديل هو أحد أعظم المجددين في علم التاريخ. يصنف بروديل كممثل، وربما كأب موقر للجيل الثاني، وهو الجيل الأكثر اعتبارا، في مدرسة الحوليات. ينظر كثير من المؤرخين إلى بروديل من خلال كتابه الهام حول "المتوسط والعالم المتوسطي زمن فيليب الثاني". لكن أهم نص كثف فيه بروديل تأطيره النظري لمنهجه التاريخي الذي أطلق عليه اسم "تاريخ الزمن الطويل"، هو مقال له أصدره في سنة 1958 بمجلة "الحوليات إقتصاد مجتمعات حضارات" ) بعنوان "التاريخ والعلوم الاجتماعية. الزمن الطويل"(. ناضل بروديل من خلال هذا المقال من أجل التأكيد على حدود المنهج التقليدي الذي يسيطر عليه تقديس الحدث التاريخي، منسبا إلى حد كبير من الإضافة العميقة التي يمكن أن يقدمها التاريخ الآني. اعتبر بروديل في هذا النص أن القرن التاسع عشر كان قرن التاريخ الحدثي، الذي يمكن أن نسميه أيضا التاريخ السياسي. يدين بروديل المنهج الذي يعتمد تحقيبا إعتباطيا يدور بالأساس حول الحدث المراد درسه، من أجل تبرير أهمية الموضوع المطروق. بالنسبة لبروديل، ليس التحقيب سوى ضرورة تبريرية يعتمدها المؤرخ الكلاسيكي، المهتم بالحدث وبخاصة منه السياسي، من أجل الإيحاء بأن عمله يساعد على فهم التاريخ.

 

التاريخ أصلا لا يفهم إلا في مداه الطويل عبر بروديل، وهو يجري بصمت، وفي الغالب دون أن يشعر التاريخ نفسه بذلك، مثل نهر يجري منذ ملايين السنين، يبني حوله كل شيء من حضارات وإنسان وبيئة، إلى الحد الذي ينسى فيه الناس أنه موجود. السكون ليس غيابا بالنسبة لبروديل، كما أن الضوضاء ليست بالضرورة حركة. عندما ننظر في الصيغة الأولى لعنوان أطروحة بروديل "فيليب الثاني والمتوسط"، والصيغة التي قدمت أخيرا بها "المتوسط والعالم المتوسطي زمن فيليب الثاني"، فإننا نفهم بيسر المخاض المنهجي العظيم الذي عاشه بروديل. من أطروحة كلاسيكية حول السياسة المتوسطية لملك إسباني في الفترة الحديثة، انتقل بروديل إلى التأريخ للمتوسط وعالمه، زمن هذا الملك. لقد تراجع الملك كثيرا وراء المتوسط، وأصبح هذا الأخير هو صلب موضوع الأطروحة. هل يمكن كتابة تاريخ بحر كان هناك منذ الأزل، مياه مالحة ممتدة ساكنة أو هائجة بحسب الطقس، لا تصل إلى الحكم ولا تخرج منه، لا تشعل ثورة ولا تفرض سلالة؟ لاحقا سيؤلف أحد مريدي بروديل، إيمانويل لروا لادوري، وهو من ضمن الأكثر تأثرا بمنهجه، كتابا حول "تاريخ المناخ منذ سنة ألف". تحول ضخم في الزمن ومقاييسه بالنسبة لعلم التاريخ.

 

لقد أسقط بروديل ليس فقط التاريخ الكلاسيكي الذي يقوم بتتبع الأشخاص، حتى لو كانوا ملوكا امتدت عهودهم عشرات السنين أحيانا، وإنما المبدأ الإعتباطي للتحقيب. لنأخذ نموذجا عن هذه الإعتباطية باتباع المنهج البروديلي: في تاريخ بلاد المغرب على سبيل المثال، وتونس بالخصوص، نجد نوعا من الاتفاق بين المؤرخين، منذ عقود طويلة، على أن التاريخ الحديث يبدأ من فكر حركة النهضة، وبالخصوص منذ الإصلاحات التعليمية والعسكرية لمنتصف القرن التاسع عشر، وأنه ينتهي كحقبة في سنة 1881، أي بدخول الجيوش الفرنسية واحتلالها البلاد، لتبدأ الفترة المعاصرة. قبل الفترة الحديثة، هناك اتفاق على أن الفترة الوسيطة تبدأ بقدوم المسلمين لفتح البلاد، وأنها تنتهي بسقوط الدولة الحفصية. عندما تنظر إلى الجزائر، إلى المغرب الأقصى، وحتى إلى ليبيا، فإنك ستجد هذه التواريخ بلا معنى، حيث يحصل تفاوت في الحدود بين فترة وأخرى، أو بين حقبة وأخرى. بالنسبة للمنهج البروديلي، هذا مجرد اعتباط. هناك نوع من المنطق، لكنه يبقى منطق تبرير بالدرجة الأولى. هل تغير المجتمع في سنة 1881، وتحول من مجتمع حديث إلى مجتمع معاصر؟ هل تغيرت طريقة تعامل الناس فيما بينهم، طريقة تواصلهم، علاقتهم بالأرض والأمراض، إلى آخر ذلك مما في بيئتهم؟ يمكن أن نسأل نفس الأسئلة في خصوص الحقبة التي سبقت، أو التي لحقت. وقعت أحداث نعم، وهذه الأحداث هامة جدا من منظور المؤرخين الذين يجعلون من حقبة صغيرة، حتى لو امتدت على قرن أو قرنين، محط تركيزهم. من هنا فإن قيمة الحدث تكمن في صغر السلم الزمني، وليس في حد ذاته، وكلما وسعت من هذا السلم كلما تضاءلت قيمة الحدث الذي كان قبل ذلك هاما جدا. بالنسبة للمنهج البروديلي، يتراجع ليس الفرد فقط، ولكن الإنسان في المطلق، إلى مرتبة متأخرة عن الجغرافيا، عن البيئة التي أنتجته فكرا وسياسة وحضارة، ليصبح أحد إنتاجاتها المتفاعلة معها.

 

ليس هناك إعتراف بصنع الإنسان للتاريخ في معناه الإطلاقي إذا، وهي فكرة جعلت معارضي بروديل يتهمونه بالإنحياز للحتمية الطبيعية، وبجعل الإنسان، وإرادته، أشياء تفصيلية يمكن التنبؤ بها. يضع بروديل علم التاريخ في بيئة العلوم الاجتماعية، ليصبح التاريخ وعاء لكل جوانب النظر الممكنة للإنسان وللبيئة. وفي الوقت الذي كان فيه علماء الاجتماع، وعلماء النفس، مثل المؤرخين تماما في بدايات القرن العشرين، في مناوشات مستمرة حول خصوصيات مناهجهم المتعددة، حريصين على تمييز مجالاتهم الخاصة والحميمة، فإن برودييل، كممثل وأحد كبار الآباء المؤسسين لمدرسة الحوليات والتاريخ الجديد، قد فجر هذه الحواجز المنهجية بين العلوم الإجتماعية، وتحرر من الوثيقة وإيحاءاتها ومغالطاتها، ليجعلها تفصيلا في جهد منهجي أكبر ضخامة. لم يظهر ذلك فحسب في كتابه حول المتوسط، بل أيضا في كتابه "هوية فرنسا"، وكتابه حول "ديناميكية الرأسمالية" الذي دمر بصورة منهجية وكاملة المنطق الذي قامت عليه أطروحة ماركس حول رأس المال. المؤرخ الذي يكتفي فقط بإعادة رسم التسلسل الذي توحي به الوثائق المتتابعة، ربما كان محققا، لكنه، من وجهة النظر البروديلية، ليس مؤرخا. تحتل الجغرافيا مركزا أساسيا في كتابات بروديل، حيث يصبح النهر والبحر والجبل والهضبة والسهل، والمناخ والجيولوجيا والديمغرافيا والجفاف، هي عناصر الفعل الرئيسية المستديمة والمتفاعلة والمنشئة لظواهر مختلفة ومتكاملة، بما في ذلك الإنسان والحضارة. أحيانا تأخذ الخريطة شكل جسم حي، حيث تمثل شبكة الأنهار الأوردة الدموية، وحيث تتحول هضبة أو سهل إلى قلب نابض بالنشاط الاقتصادي بعد أن تجمعت فيه تلك الأوردة. الطبيعة جسم حي ومؤثر، بان للهوية ومشكل لها. أدت ثورة بروديل والحوليات عموما على التاريخ السياسي والحدثي إذا إلى ثورة على الإنسان، في صيغته المفردة خصوصا، وإلى إعادة بناء سلم الزمن، وترسيخ حتميات ديناميكية جديدة.

 

الجزيرة. نت: تطبيقات بروديلية؟

عدنان المنصر:  قام جمال حمدان، الجغرافي المصري المعروف، بتأليف كتاب ضخم ومؤسس عن مصر صدر في أربعة أجزاء سنة 1984، باتباع نفس التوجه المنهجي العام إجمالا، وهو كتاب "شخصية مصر. دراسة في عبقرية المكان". عندما تنظر في الجزء الأول من الكتاب تجد أن الطبيعة هي أصل كل الحضارة المصرية، الجيولوجيا والصحراء والنيل، في حين خصص الجزء الثاني لحركة البشر عبر هذه الطبيعة وعناصرها المحددة، بما في ذلك الأنظمة السياسية الرئيسية والتحولات الاجتماعية التي نشأت عنها. أما الجزء الثالث فقد جعله للإقتصاد في زمنه الطويل )شخصية مصر التكاملية(، مخصصا الرابع للثقافة )"شخصية مصر الحضارية"( . كان هذا العمل الضخم إقرارا، وترسيخا، لعبقرية المكان، الذي يمكن أن نسميه الطبيعة أو البيئة أو الجغرافيا، وعنها نشأت تفصيلات كثيرة، من بينها الإنسان والحضارة.

أنظر إلى كتاب جديد صدر منذ أقل من عام، يتبع تقريبا نفس التوجه العام، وهو كتاب "هزيمة الغرب" للمؤرخ الفرنسي إيمانويل تود، وهو للمصادفة مؤرخ مختص في التاريخ الديمغرافي، أي شديد القرب من الجغرافيا البشرية وقضاياها ومناهجها. تجد في هذا الكتاب تفكيرا حول الزمن الطويل، ووضعا للغرب أمام العناصر الرئيسية العميقة التي تحدد توجهاته ومصيره، والتي يقعل تحليل كل تفاصيل السياسة الأوروبية والعالمية انطلاقا منها واحتكاما إليها؛ الأنثرووبولجيا والديمغرافيا والأخلاق. هذه عناصر يمكن أن نرى بيسر تشابهاتها الشديدة مع العناصر المكونة للزمن الطويل لدى بروديل. في حين يركز مؤرخ الأحداث، أو المختص في الزمن السياسي ) القصير ضرورة( على حرب أوكرانيا، فإن مؤرخ الزمن الطويل يذهب للحفر بعيدا جدا عن فيفري 2022، ولا يسعى فقط إلى فهم الأسباب العميقة لهذا النزاع في رقعته الروسية الأوكرانية، وإنما في بيئته الحضارية العامة، الأوروبية، وفي سياق منظومة الهيمنة الدولية التي نشأت منذ الحروب الإستعمارية، مسائلا تركيبة العائلة، ونسب الجريمة، والممارسات الدينية، والظواهر الجنسية إلخ. هنا فإن الثقافة والأنثروبولوجيا وتاريخ الأخلاق والديمغرافيا تصبح عناصر الزمن الطويل التي تقدم الأجوبة الأساسية عما يقصر تاريخ الأحداث عن إدراكه، ويمر بالقرب منه دون أن يراه في الغالب. هذه "العناصر الساكنة" هي في الحقيقة العناصر المتحركة، ولكننا لا نرى حركتها، أو أننا نسينا أن نراها. لنأخذ مثالا آخر: يمكن أن يهتم أحد الباحثين بتطور السلاح المستخدم في هذه الحرب، بدوره في الحسم العسكري لمعركة ما، بنقل عربات أو مدرعات أو مدافع متحركة من الحلف الأطلسي إلى الجيش الأوكراني. لكن إيمانويل تود يذهب للبحث في مسألة تكوين المهندسين، في توجيه طلبة الباكالوريا لشعب الهندسة، ويقارن بين الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا مثلا من جهة، وبين نفس الظاهرة في كل من روسيا وإيران والصين. هذا هو العامل المحدد، وليس نقل آلة ما من جهة إلى أخرى عبر الحدود. هناك مجددا فارق في سلم الزمن، حيث تتحول معركة أو آلة إلى تفصيل صغير وثانوي جدا في مسار امتلاك التقنية على المدى البعيد.

 

الجزيرة. نت: كيف نقرأ مسألة فلسطين باتباع المنهج البروديلي؟

عدنان المنصر: هناك كتاب هام صدر بالألمانية في سنة 1939 بعنوان "موسى والتوحيد"، للمحلل النفسي الأشهر سيغموند فرويد. ما يهمنا في علم النفس التحليلي هنا كونه أحد مناهج البحث الذي يمكن أن تضيف لعمل المؤرخ، وإن كان فرويد نفسه قد عاد لكثير من المراجع التاريخية، وحتى لعلم الآثار والدراسات في حقل اللغة والكتابة، مع محاولة لضبط الأماكن على الخارطة الجغرافية لكل منطقة المشرق. هناك توجه بروديلي واضح في هذا الكتاب، وإن كان بروديل لم يكن قد أخذ بعد الشهرة التي له اليوم ) لم يكن قد ناقش أطروحته حول المتوسط أصلا آنذاك(. لم يكن فرويد مؤرخا، كما لم يكن المنهج البروديلي قد عبر عن نفسه بعه، لنوضح ذلك لأنه هام. هل تأثر فرويد بالحوليات؟ لا أدري، لكن دراسته التي راقب فيها نشأة الديانة اليهودية، وحركة البشر عبر الصحراء، ودور القحط، واعتبار كل تلك العناصر هامة في التحليل النفسي، وإخضاع ظاهرة تاريخية إلى منهج التحليل النفسي، يضيء منهجا متحررا من حدود الإختصاص التقنية الكلاسيكية والمحافظة.

 

يقول بروديل في مقاله الصادر في سنة 1958، أن علم الآثار أنقذ التاريخ. هذه عبارة رشيقة للتدليل على مأزق التاريخ السياسي والحدثي إزاء القضايا التاريخية الكبرى والممتدة في الزمن. باتباع المنهج البروديلي، لا يجب أولا أن ننظر لفلسطين، تلك الرقعة الصغيرة من الأرض في بلاد الشام الجنوبية، ككتلة بشرية أو حتى طبيعية منفصلة عن البيئة العامة للمشرق. هناك منذ الأزل حركة مستمرة للبشر بين أرجاء هذه الرقعة الجغرافية، وهذه الحركة لا تحدد اتجاهها الحروب فقط على سبيل المثال، بل إن الحروب في أصلها نوع من الضرورة المستجيبة لأحكام المجال وإمكانياته وتعامل الإنسان مع الندرة والمناخ.

 

هناك وحدة طبيعية وبشرية، وتاريخية إذا، لكل هذه المنطقة التي تبدو لنا متصارعة منذ قرون. كل الصراعات التي نشأت في الإقليم، قبل الظاهرة الصهيونية وفي الحيز الذي استغرقته الحملات الصليبية القادمة من اوروبا، هي صراعات داخلية يحددها منطق عام متماسك. كون موسى مصريا مثلما يقول فرويد، يتناقض تماما مع الفكرة التي كانت شائعة آنذاك، والتي لا تزال منتشرة اليوم بحكم الصراع السياسي والثقافي في المنطقة، والتي فحواها أن اليهودية نشأت كقطيعة مع البيئة الطبيعية والبشرية للمشرق. فكرة الإستمرارية، وليست فكرة السكون، هي ما يميز التاريخ، والأمر غير متوقف على منطقة المشرق. هل تركز الصراع في منطقة الشام الجنوبي، حيث نسبة التساقطات مرتفعة مقارنة مع بادية الأردن، وحيث شبكة الأنهار كثيفة نسبيا مقارنة مع شبه الجزيرة، مجرد صدفة لا أثر لها في حياة شعوب المنطقة؟ وتلك المكونات التضاريسية الممتدة، صحراء كانت أو مسطحات بحرية ومائية، هل منعت انتماء المنطقة إلى نفس الثقافة الممتدة عبر الزمن الطويل؟

 

بطريقة ما، فإن اليهودية إنتاج لبيئة جغرافية معينة، أو فلنقل تلافيا للجدل، أنها نشأت في بيئة معينة، لها مميزاتها ومنطقها العام القائم على التجانس. ما حصل عبر الحملات الصليبية وكذلك عبر المشروع الصهيوني، هو تفاعل مع عنصر غريب وافد بقوة السلاح وقرار السياسة، في سياق تاريخي معين، على منطقة منسجمة تعايش فيها السكان إجمالا بتناسق مع البيئة. ينبغي النظر في كتابات رواد التاريخ الجديد في إسرائيل لنفهم خصوصية هذا العنصر الدخيل، ودوره في إنتاج المأساة الفلسطينية، والمشرقية، منذ ثلاثينات القرن الماضي. يركز شلومو ساند مثلا على موضوع مملكة الخزر، لينقض تماما أطروحة الشتات. إنه يذهب بعيدا جدا، بمعنى المسافة، ليفسر أطروحته التي تعتبر الصهيونية، وليس اليهودية، سبب مأساة المنطقة، متنقلا من العراق القديم، إلى بلاد آشور، إلى أوروبا الوسطى وأوكرانيا، ليقول لنا أنه لا أصل لفكرة شعب كان متجمعا في فلسطين وقع تشتيته بقوة السلاح، ثم دخل بعد ذلك في عهد الشتات، قبل أن تظهر الصهيونية وتدعي عملها من أجل إعادة الشعب اليهودي إلى أرضه، أرض الميعاد. اليهودية ديانة وليست قومية، والفارق بينها وبين الصهيونية هو بالضبط الفارق بين الثقافة والحرب. وبالنسبة ليهود فلسطين، من غير الوافدين إليها مع الصهيونية، فإنهم أبناء الأرض الذين أصبحوا في فترة ما مسيحيين، وهم اليوم مسلمون. يعني ذلك أن الفلسطينيين اليوم، بغض النظر عما اعتنقوه عبر التاريخ من ديانات، هم أبناء الأرض منذ قرون عديدة، بل منذ الأزل، وأن ما حصل باستمرار كان تحولا من تعبير ثقافي لآخر، في نفس الكتلة التاريخية البشرية المهيمنة.

 

بالنسبة للمؤرخين الجدد، والتاريخ الجديد المعادي للصهيونية في الأكاديميا الإسرائيلية، فإن المأساة هو في سعي القومية الأوروبية، والصهيونية، إلى قطع حبل التجانس البشري والطبيعي في الإقليم، عبر السياسة والقرار السياسي، والمصلحة الاقتصادية، والرغبة في الهيمنة. هناك محاولة إحلال ثقافة دخيلة عنيفة محل ثقافة أصيلة مسالمة. يجعل ذلك من الأمر اليوم متعلقا بصراع بين أبناء الأرض، أبناء الجغرافيا والثقافة والديمغرافيا الأصيلة في المنطقة، وبين مشروع هيمنة مستورد ومفروض بالقوة الخارجية. يشير إيلان بابي، من ضمن هذا التيار البحثي المسمى بالتاريخ الجديد، أي في نهاية الأمر بمدرسة الحوليات، إلى ظاهرة طريفة ومعبرة عندما يذهب للبحث عن آثار القرى الفلسطينية القديمة التي دمرتها العصابات الصهيونية بداية من ربيع 1948، فيجد أنه إمعانا في طمس حقيقة الزمن الطويل وترسيخ التاريخ المستورد، فإن دولة إسرائيل قامت في الغالب بغراسة غابات فوق هذه القرى، وأن هذه الغابات متكونة في معظمها من أشجار لا علاقة لها ببيئة فلسطين، حيث تم استيرادها من أوروبا، وقد حصل نفس الشيء في موضوع المعمار .أنشأت الصهيونية في فلسطين واقع صراع متعدد الأوجه وعنيف بين التاريخ في مداه البعيد، والقرار السياسي المستند إلى المصلحة المادية للقوى الكبرى. لكنه صراع لا تستطيع حسمه القدرات التقنية، وهو ما يظهر بوضوح منذ عشرة أشهر هي اليوم عمر العدوان الصهيوني على غزة. قدرة المقاومة على البقاء، واستعدادها اللامتناهي للتضحية من أجل الأرض، هو دليل تملك بعيد في الزمن لهذه الأرض، لبيئتها التي تحسن الإنسجام فيها دون جهد مصطنع، وتملك للثقافة التي أنشأتها هذه البيئة. هناك حقيقة إستراتيجية تمخضت عن عشرات القرون من التطور البشري في بيئة متجانسة ومتكاملة طبيعيا، وهناك في المقابل حقيقة حدثية، سياسية، تكتيكية، منفصلة تماما عن البيئة الطبيعية والبشرية والحضارية للمنطقة. هذا هو التلخيص البرودلي الممكن للصراع الحالي في فلسطين، تلخيص خصص له جمال حمدان، إذا ما أخذناه كمثال عن تطبيق المنهج البرودلي على تاريخ الزمن الطويل للمنطقة، أعظم إنتاجاته الفكرية.

 

الجزيرة. نت: بعد مرور 76 عاما على احتلال فلسطين وفناء أجيال في مقاومة الانتداب البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيل، أليس من الصعب اليوم الحديث عن تحرير وعن فلسطين من النهر للبحر، خاصة مع التفوق العسكري والدعم الغربي؟


 

عدنان المنصر: عندما نقول عن أمر ما أنه صعب، أو أنه يسير، ما هو المقياس الذي على أساسه نطلق هذا التقدير؟ التوازنات الوقتية العابرة، لأنها توازنات مصطنعة ولا تستند إلا إلى القوة المادية الغاشمة والعنف العاري، أم التوازنات الطبيعية والديمغرافية والحضارية الممتدة عبر الأحقاب التاريخية؟ الوضع الراهن اليوم ناتج عن محاولة إحداث قطيعة في منطق الزمن الطويل، لكن أي قطيعة قابلة للنجاح يجب أن تكون إنتاجا للبيئة الداخلية التي يتطور داخلها الزمن الطويل لمنطقة ما. القطائع المصطنعة محاولات فاشلة مبدئيا بحكم منطق التاريخ نفسه. هذه مسالة استراتيجية لا دخل للأفراد وللمجموعات بها التي تتحكم فيها على المدى الطويل. هؤلاء الأفراد والمجموعات هم مجرد إنتاج للمنطق العام للتجانس الطبيعي الذي ينشأ عنه تجانس حضاري لا يستطيع أن يهضم العناصر عندما تحاول الدخول إليه غصبا وفي حيز زمني قصير. احتلال فلسطين، وقبل ذلك الهجرة الصهيونية إليها، والإنتداب وحرب 1948، وحتى حرب 67 ومعاهدات التطبيع، كلها مجرد تفاصيل إذا ارتفعنا بما يكفي لنستطيع رؤية الحركة العامة للتاريخ في هدوئها وإصرارها وانسجامها. ما نراه من مقاومة في فلسطين، ومن عجز إسرائيل وكل العالم الغربي الذي يسيطر تقريبا على كل السياسة والإقتصاد اليوم في العالم، هو تأكيد على غلبة الإستراتيجي على المرحلي، حتى لو استمر هذا المرحلي مئة عام. أصلا، فإن المنسوب العالي من العنف المستخدم ضد الفلسطينيين هو تعبير عن قناعة صميمة لدى الصهيونية وحزامها الثقافي بأن الأمر يتطلب جهدا ضخما من أجل عكس منطق التاريخ في مداه الممتد.

 

أصلا، عندما تتحدث الصهيونية عن إسرائيل الكبرى، فإنها تقر بأن المنطقة التي تشمل فلسطين والشام ومصر وشبه الجزيرة إلى حدود العراق، منطقة متجانسة ومتكاملة طبيعيا وتاريخيا. عندما تنظر في التركيبة الحضارية لهذه المنطقة، الثقافية واللغوية والأنثروبولوجية، تجد بأن بإمكانها أن تتوحد، ولكن ليس تحت راية الصهيونية التي تبقى جسما غريبا عنها. أنظر في سحنة من يقود إسرائيل اليوم، وانظر في سحنة من يقاومها، وسيتضح لك من الأصيل ومن الدخيل. هذا هو مقياس الحق الذي يصوغ الإرادة ويبني النصر إستراتيجيا، وليس كثافة النيران أو عدد ما توقعه من ضحايا.