Notes méthodologiques sur quelques problproblématiques de l'histoire du temps présent . Participation à un ouvrage collectif (en arabe).
مساهمة منشورة ضمن الكتاب الجماعي "تاريخ الزمن الراهن. عودة إلى التاريخ السياسي والتاريخ الحدثي"
تاريخ الزمن الراهن ليس اختصاصا جديدا
هذا ليس اختصاصا جديدا في الحقيقة مثلما قد يبدو. لقد قبل به في الجامعات كشعبة من شعب التاريخ المعاصر. بل أكثر من ذلك فإن الكتب المدرسية أصبحت تعتمد في محاورها مسائل قريبة زمنيا. أعتقد أن هذا طبيعي جدا بالنسبة لبلدان تحترم القوانين المتعلقة بالأرشيف، وتضع على ذمة الباحثين ما تسمح به القوانين السارية. يتعلق الأمر أيضا بالإمكانيات المادية والبشرية والتقنية: هذه البلدان ليس لها في الغالب مشكل في فرز الوثائق وتبويبها وكل تلك المراحل التي تسبق إتاحتها للباحثين. حتى بالنسبة للمصادر الصحفية، نحن في الغالب أمام صحافة محترفة أولا، وأمام تعدد المصادر الصحفية، وهذا يعني أن الصحافة يمكن إجمالا أن تكون أرشيفات مساعدة للباحثين. إذا نظرت لكل هذه الإعتبارات تجد أنه يصبح من الطبيعي والمنطقي أن يقع اقتحام تاريخ الزمن الحاضر بكثير من الضمانات المنهجية.
متى يبدأ تاريخ الزمن الراهن ومتى ينتهي؟
هذه قضية منهجية ذات طابع إشكالي ظاهر. أصلا، إذا ما اعتمدنا تواريخ معينة، فإن ذلك يتم غالبا لرمزية تلك التواريخ بالنسبة لبلد معين. لا معنى لالتزام جميع المؤرخين بتاريخ محدد واحد للقول أن تاريخ الزمن الحاضر يبتدأ به أو ينتهي عنده. وحتى من قبل تاريخ الزمن الراهن، فإن نفس المشكلة تطرح بالنسبة للتاريخ المعاصر وكل الحقب التاريخية الأخرى. التاريخي المعاصر أو الحديث أو الوسيط وحتى القديم، لا يبدأ في نفس التوقيت بالنسبة للجميع, أنظر مثلا لتاريخ فرنسا: الفترة المعاصرة تبدأ مع الثورة الفرنسية. الأمر إذا يتعلق بحدث خارق أنهى حقبة وبدأ حقبة أخرى. بالنسبة لتونس، في 1789، نحن في صميم الفترة الحديثة. مثال آخر: الفترة المعاصرة تبدا في تونس مع انتصاب الحماية الفرنسية في 1881، لكنها في المغرب الأقصى تبدأ في 1912، لكن أيضا مع انتصاب الحماية الفرنسية. مثال تونس-المغرب مثال جيد في الحقيقة: أنت تجد أن المنطق نفسه، ولكن التواريخ مختلفة. إجمالا في الفضاء المغاربي، الفترة المعاصرة تبدأ مع دخول الإستعمار ليس كحدث، ولكن لأن الأمر يتعلق بزلزال تاريخي إن جاز لنا استعمال هذه العبارة. جملة من التغييرات العميقة في الدولة، في الثقافة، وفي المجتمع ستبدأ مع هذا الحدث. سؤالي هو: هل يمكن اتباع نفس المنهج في التفريق بين التاريخ المعاصر وتاريخ الزمن الحاضر؟ موضوع إشكالي حقيقة. اذا اعتبرنا أن الإستعمار كان حقبة بمفردها، هل يجوز اعتبار بداية الدولة المستقلة بداية لحقبة أخرى؟ البعض يقول نعم، والبعض لا يوافق. غير الموافقين يستندون عادة إلى موضوع إشكالي وهو التحديث، باعتبار أن دولة الإستقلال واصلت تقريبا نفس السياسات التي وضعاها منظومة الحماية، وأن النخبة التي حكمتها هي تلك النخبة التي ظهرت تحت الحماية، وأن المشارب الفكرية كانت هي نفسها تقريبا، بل إن الدولة واصلت تقريبا نفس طريقة العمل ونفس المنطق. بطبيعة الحال فإن كل نقطة من النقاط المذكورة هنا هي موضوع نقاش أكاديمي طويل، وإنما نحن هنا نسعى للتبسيط من أجل الفهم.
إلى حدود نهاية الثمانينات وحتى بعد ذلك في الغالب، كانت الدراسات التاريخية المختصة في الفترة المعاصرة تتوقف عند سنة 1956، تاريخ حصول تونس على استقلالها. بطريقة أخرى، وقع إغلاق الفترة المعاصرة على الحركة الوطنية. الكتاب المدرسي لم يتناول فترة بناء الدولة إلا بصفة لاحقة، أي بعد 1987، وتوقف هو أيضا في بداية الستينات، أي مع الجلاء التام، بما يعني أن نفس المنطق تقريبا بقي مستقرا. السؤال هو التالي: من 1956 إلى 1987 هناك ثلاثون عاما. هل أعرض المؤرخون عن دراسة هذا الحيز الزمني حرجا من السلطات؟ لا. إعتقادي أن لا. السبب منهجي بدرجة أولى: الأرشيفات لم تكن متاحة، والشهادات والصحافة لا يمكن ان تكون بمفردها مصادر يمكن الإقتصار عليهما. لنطبق هذا السؤال على الفترة القريبة منا: الفترة من 2000 إلى 2010 مثلا (هناك من زملائنا في الجامعة من يؤطر حاليا رسائل متعلقة بالفترة من 2020 إلى 2023)، أي مصادر يمكن الإعتماد عليها وفي الوقت نفسه تقديم مضمون محترم منهجيا وعلميا؟ ليست لي أدنى ثقة في ذلك.
المنهج التاريخي واضح، وهو في موضوع المصادر يشترط التنوع، من أجل البحث عن التقاطعات. هذا لا يمكن أن يتوفر دون شروط بالغة الصعوبة. لذلك بدت لك بعض تلك الأشغال وكأنها مقالات صحفية، ببساطة لأنها لا تجد سوى الصحافة للإعتماد عليها. طيب هل يمكن فعلا الإعتماد على نوع واحد من المصادر؟ هذا عبث لا علاقة للمنهج التاريخي به.
هناك في المنهج متطلبات تتفق فيها كل الإختصاصات، وهناك أيضا خصوصيات لكل اختصاص. لنركز على العناصر الجامعة، حتى نفهم أن الأمر متعلق بالمنطق، لأن المنهج في كنهه منطق. لنفترض أن الصحفي يبث عن الحقيقة. ولنفترض أن المؤرخ يبحث عن الحقيقة كذلك. لكن كلاهما يبحث عنها في بعد مختلف من الزمن. هناك من بحث في وجود عليسة من عدمه، وهناك من بحث في تاريخ تأسيس قرطاج، وقد اعتمدوا على منهج تاريخي قاس مكنهم من دحض الكثير من الأساطير، ومن وضع احتمالات مختلفة. الصحفي لا يذهب للبحث في ما إذا كانت عليسة موجودة أم لا، أو في تاريخ تأسيس قرطاج. البعد الزمني هنا مختلف. نفس الشيء، الصحفي في سنة 1955 تابع المفاوضات التونسية الفرنسية، حيث مازالت لم تصبح تاريخا بعد. الآن لو ذهب صحفي للبحث في ذلك الموضوع لعد مخبولا. لكن في الأصل، فإن مهمة كليهما واحدة: البحث عن الحقيقة. لنترك الصحفي والمؤرخ ولنأخذ مثالا آخر: القاضي. هذا الموظف توضع أمامه مستندات القضية، ومن بين هذه المستندات تقارير المحققين، والأدلة الجنائية، وغيرها. وبالرغم من أنه بإمكانه أن يصدر أحكامه دون أن يعيد النظر في التحقيقات، إلا أنه يأمر بذلك إذا تسرب إليه شك في صحة اعتراف، أو في صحة وثيقة، أو في أي عنصر من عناصر القضية. بل إنه يطلب الإستماع للشهود، ويسأل المتهم أو المدعي إن كان يريد استدعاء شهود آخرين. إلخ
في نهاية الأمر فإن البحث عن الحقيقة هو هدف الجميع، لكن الحيز الزمني الذي يشتغل فيه كل هؤلاء مختلف. لاحظ أنهم يذهبون لجمع المعلومات، ولا يكتفون بمصدر واحد، لأنهم يعرفون أنه ليس هناك مصدر محايد أو بريء، ولأن الحقيقة تظهر من خلال البحث عن التقاطعات. كيف تستطيع كتابة بحث تاريخي محترم بالاعتماد على مصدر واحد، بغض النظر عن مدى صدقيته؟ إذا كنت تحترم الإختصاص، فإنك لا تفعل هذا. بحثك سينتهي بعد ظهور أبحاث أخرى كانت أكثر حرجا، وسيصبح موضوعا للتندر، بل سيكون مثالا تطبيقيا لما لا يجب القيام به .
لنعد للسؤال الأصلي: ماهو التاريخ الذي نبدأ به فترة الزمن الحاضر ونميزه عن الزمن المعاصر؟ إذا أجبت وقلت مثلا، إعتباطا، 1980، هل سيكون لهذا الجواب معنى بعد عشر سنوات؟؟ طبعا لا؟ سيكون هناك تاريخ جديد ربما اعتمده البعض للفصل بين الزمنين. دعني أعطيك مثالا واضحا: في سنة 1990-1991، قدمت لأستاذي المرحوم محمد الهادي الشريف مقالين للنشر في "كراسات تونس" التي تصدرها كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية 9 أفريل يتعلقان بتاريخ الصراع بين اتحاد الشغل والحزب الدستوري متخذا على ذلك مثال صدامات 26 جانفي 1978. حينئذ اعتبر أستاذي محمد الهادي الشريف ان المقالين يتعلقان بتاريخ الزمن الحاضر، بالرغم من أن المسألة التي أتناولها كان قد مضى عليها اثنان وعشرون عاما. لماذا؟ أولا لأنه اعتبر أن المقالين يتوفران على احترام للمنهجية العلمية، بما فيها تنوع المصادر وضرب الروايات بعضها ببعض. هذه مجلة محكمة وقد أجاز نشر المقالين اثنين على الأقل من كبار أساتذة الإختصاص. توفر الضوابط المنهجية أمر أساسي إذا حتى يكون المقال علميا. هنا، حوالي ربع قرن لم يكن قد دخل تصنيف التاريخ المعاصر، وهذا نوع من التحفظ بالرغم من الجهد المنهجي. تحفظ لماذا؟ لأن المصادر تبقى رغم ذلك منقوصة. هي منقوصة، ولكن التناول علمي ومحترم منهجيا. ماذا أقصد هنا بالتحفظ؟ أقصد أن هذا النوع من المواضيع كان ينظر إليه بنوع من التساؤلات المشروعة حول قيمة الخلاصات في حين أن الأرشيفات غير متاحة أو مفقودة. بطريقة أو بأخرى، كان تاريخ الزمن الحاضر ينظر إليه على أنه مغامرة يجب مراقبتها وأخذ مسافة معقولة منها بالنسبة لكبار أساتذتنا. أقول هذا عن مواضيع كان قد مر عليها ربع قرن/ فما بالك بمواضيع يكلف بها طلبة باحثون اليوم وتتعلق بأحداث لم يمر عليها سوى خمس سنوات مثلا. أكثر من ذلك، في سنة 2014، أصدر أحد الزملاء المؤرخين ممن يعتد بأبحاثهم وبجديتهم، كتابا حول فترة الترويكا التي كانت لم تنته بعد. هذه في الحد الأدنى مغامرة قل أن ينجو من تأثيراتها باحث يدعي الجدية. أوضح أكثر: في خضم الصراع السياسي المحتدم، وعندما يكون لك موقف واضح مما يحدث ومنحاز لأحد طرفي الصراع، ماهو مدى علمية ما تكتب؟ ماهو مدى علمية الاستناد إلى صحافة منحازة ومشبوهة التمويل؟ يمكن أن يكون البحث مندرجا في نوع أدبي آخر، أما أن يسمى تاريخ الزمن الحاضر، فأعتقد أن دون ذلك إشكالات.
قضية مصادر تاريخ الزمن الراهن
يواجه المشتغل على تاريخ الزمن الحاضر صعوبات كثيرة تتعلق بالمصادر. قضية المصادر هذه هي من صميم المشكل المنهجي، وليست طارئة عليه. عندما نتحدث عن منهج علمي في التاريخ، فنحن نعني أساسا قضية المصادر: كيف يقع اختيارها، وكيف يقع التعامل معها. دعني أواصل فكرة تناولتها في السابق: لا يمكن في الحالات الإعتيادية أن يبدأ المؤرخ حياته البحثية بالتخصص في الزمن الحاضر. هذه مغامرة قل أن نجحت. المنهج التاريخي، أو ما يسميه البعض بالصنعة، لا يصقل إلا بالإشتغال بالطريقة القديمة القائمة على تعامل منهجي صارم مع المصادر والمراجع. هذا يفترض أن تكون تلك المصادر بالخصوص متوفرة. عندما يبدأ بعض المؤرخين الشبان اليوم حياتهم البحثية بتاريخ الزمن الحاضر، فهذا لا يسمح لهم بالتعاطي مع مصادر متنوعة، ولا يسمح لهم بالتالي بصقل إمكاناتهم البحثية.
هناك استسهال اليوم للمواضيع التي تقترح على طلبة التاريخ المعاصر وهم يخطون خطواتهم البحثية الأولى. ذلك أن مهمة الأستاذ المؤطر لا ينبغي أن تتعلق فقط باقتراح موضوع بحث على الطالب، وإنما بالتساؤل عن دوره هو كمؤطر: هل يتعلق الأمر بتكديس المذكرات أو الرسائل التي يكتب إسمه على غلافها كمؤطر، أم بالأخذ بيد الطالب وتعليمه الصنعة كما يفترض أن تعلمها هو؟ لا يمكن للمؤطر أن ينجح في أداء مهمته العلمية إلا إذا فهم دوره التربوي أولا. هذان عنصران متلازمان. عندما يطرح المؤطر على الطالب موضوعا، أو عندما يأتي إليه الطالب باقتراح موضوع، فإن السؤال الأول هو: ماهي المصادر؟ هكذا بالجمع. أول مميزات العكمل العلمي والمنهجي هو إتقان الطالب الباحث للتعامل مع مصادر مختلفة، مقارنتها ببعضها البعض، استنطاقها للخروج بمعطيات. هذا كله يمكن تلخيصه في المسافة.
ماهي المسافة؟ هي ليست فقط في ابتعاد الباحث زمنيا عن الحدث الذي يتناوله. هي في قدرته على الإبتعاد عن المصادر ومواجهتها بمنهج نقدي. ذلك أن المنهج العلمي يقوم بالدرجة الأولى أيضا على القدرة على النقد العلمي للمصادر وللمراجع أيضا.
لنأت الآن إلى قضية المصادر المعتمدة بصفة خاصة في تاريخ الزمن الحاضر: في الغالب يتعلق الأمر بشهادات شفوية، وبالصحافة. لا أتحدث هنا عن المذكرات، لأنه يمكن للشهادات الشفوية أن تكون نوعا من المذكرات. التعامل مع الشهادة الشفوية لا يختلف عن التعامل مع المذكرات إلا في نقطة واحدة تقريبا: دور الباحث. عندما يجمع الباحث بنفسه الشهادة الشفوية هو أمر مختلف عن استغلال شهادة شفوية سجلها الشاهد بنفسه ودون تدخل أي طرف، أو عن مطالعة مذكرات أنتجها الشاهد من تلقاء نفسه.
يمكن للباحث أن يدقق الكثير من المسائل عندما يجمع الشهادة الشفوية بنفسه. لكن التجربة تقول دائما أنه لا يمكن أبدا البداية بالشهادة الشفوية، فضلا عن الإكتفاء بها. الشاهد فاعل، وليس مجرد شاهد كما قد تحيل عليه العبارة. يندر جدا أن يقرر شخص لم يكن له أي دور أن يقرر فجأة كتابة شهادته. هذا يضع على الباحث مهمة كبيرة: تدقيق الرواية بالإعتماد على مصادر أخرى، قد تكون "شهادات" أشخاص آخرين جزءا منها.
اشتغلت في فترة ما، في بداية التسعينات على ما أذكر، على الشهادات الشفوية، ونشرت ورقات في هذا الشأن بمجلة روافد الصادرة آنذاك عن المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية والتي كنت إلى جانب الزميل القدير المرحوم حسين رؤوف حمزة مؤسسين لها، وكان ذلك في فترة إدارة الأستاذ القدير عمار المحجوبي للمعهد. عندما أثير موضوع الشهادات الشفوية كمصدر من مصادر التاريخ المعاصر، كان ذلك في سياق ما سمي آنذاك بضرورة إعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية. اشتغلت شخصيا، خاصة مع الزميل الأستاذ حبيب القزدغلي، سنوات في تجميع الشهادات الشفوية في إطار وحدة التاريخ الشفوي والتراث السمعي البصري. لكننا اشتغلنا بالأساس على شهادات أشخاص شاركوا أو عايشوا فترة الكفاح الوطني. ما يعني أنه كان بإمكاننا مقاربة تلك الشهادات مقاربة نقدية، وتوجيه الشاهد أثناء الحوار، بالإعتماد على معطيات من مصادر أخرى خاصة الأرشيفي منها.
كان الأمر مختلفا إذا عن استعمال الشهادة الشفوية في دراسة تاريخ الزمن الحاضر. لقد عملنا على إثراء المصادر بإضافة نوع جديد إليها، يفترض أن يخضع لنفس مبادئ التناول العلمي المنهجي الذي نواجه به أي مصادر أخرى.
هكذا ترى أن المصادر الشفوية إذا كانت عنصرا في مجموعة من المصادر الأخرى، يمكن أن تضيء، أن تكمل، أن تفتح أمام الباحث آفاقا أخرى للإضافة أو المقارنة. كيف يكون الأمر عندما يصبح متعلقا بها كمصدر وحيد، أو كمصدر وحيد إلى جانب الصحافة؟ هذا هراء منهجي لا يمكن أن ينتج إلا ثرثرة تدعي العلمية دون أن تستطيع الإقتراب منها.