Interview Al-Quds Al-arabi autour de la Palestine et du déluge d’al-Aqsa (en arabe).
القدس العربي: بعد حوالي خمسة أشهر من العدوان الإسرائيلي المتواصل، ما هي قراءتكم للوضع في قطاع غزة على الصعيد الإنساني والميداني، بمعنى هل نحن أمام "معركة غير متكافئة" بين المقاومة والعدو الصهيوني؟ أم أنها حرب إبادة وتدمير ممنهج تخوضها إسرائيل ضد سكان القطاع؟ (وفق ما تؤكد أغلب دول العالم) أم أن الأمر مجرد "مبالغة في الدفاع عن النفس" ردا على "هجوم" المقاومة، كما تؤكد بعض الأنظمة الغربية؟
عدنان المنصر: هناك إشكال في تعريف ما يجري، لأن اختيار المصطلحات والمفردات ليس في نهاية الأمر سوى تكييف لموقف سياسي مما يحصل. بالنسبة لي، عندما نتحدث عن حرب فهذا يفترض بالفعل أن يتعلق الأمر ببلدين متحاربين يضع كل منهما جيشه في مقابل الجيش العدو. تقديم الأمر بهده الصيغة مخالف للوقائع على الأرض طبعا، لأن المغالطة هنا بالذات هي الهدف. الأمر موضوعيا يتعلق بحركة تحرر، بمجهود تحرري يستعمل من ضمن ما يستعمل الكفاح المسلح، وهو كفاح مشروع بمقتضى القوانين الدولية نفسه. تقديم الأمر على أنه حرب بين جيشين ينزع هذه الشرعية الأخلاقية والسياسية إذا، وهذا هو الهدف الأصلي من السردية الصهيونية والغربية إجمالا التي حاولت التغطية على الجرائم الصهيونية خاصة منذ السابع من أكتوبر. السردية الموضوعية تقول شيئا آخر مختلفا تماما، وهو أن الأمر بتعلق بحركة تحرر وطني، وأنه هذه الحركة مخولة أخلاقيا باستعمال كل الوسائل للدفاع عن كيانها الوطني والثقافي والسياسي والبشري، في حين لا يملك الاحتلال أيا من الحقوق الأخلاقية التي يدعيها. هناك إذا في فلسطين حركة تحرر من استعمار يستعمل كل الوسائل، بما في ذلك الإبادة الجماعية وكل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من أجل إعاقة تحرر الشعب الفلسطيني. هذا هام جدا لأنه يتعلق بسردية الصراع، وهذه السردية هي العمود الفقري للصراع.
القدس العربي: في ذات السياق، كيف تفسرون تباين ردود الفعل العربية إزاء عملية طوفان الأقصى، بين مؤيد للمقاومة والشعب الفلسطيني ضد العدو الصهيوني، وآخر يحمّل حركة حماس مسؤولية تدمير قطاع غزة؟
عدنان المنصر: لنتناول الأمر من زاوية موضوعية ومجردة. هل أن جرائم الإبادة التي تشنها الصهيونية على الشعب الفلسطيني أمر مستحدث أدى إليه هجوم السابع من أكتوبر، أم أنه تقليد قديم ملازم للمشروع الصهيوني منذ يومه الأول في فلسطين؟ في سنة 1948 مثلا، لم يكن هناك سبعة أكتوبر، ولاحقا أيضا، لم يكن هناك سبعة أكتوبر. طيلة ثمانين عاما لم يكن هناك سبعة أكتوبر، ولكن الإبادة لم تتوقف يوما. تحميل المسؤولية للمقاومة هو رد فعل منكر للوقائع التاريخية وعلى الأرض، وهو يفسر بحالتين: عدم إدراك طبيعة الصراع في الحد الأدنى، ومساندة الاستعمار الوحشي الذي تقوده إسرائيل في الحد الأقصى. هناك حد وسط طبعا، وهذا تمثله سلطة محمود عباس التي تعتقد أن مصلحتها إلى جانب إسرائيل وضمن أوسلو. هذه إذا ردود فعل نابعة من قراءة المصلحة، ومن سيطرة الوهم الذي تمثله إسرائيل على الوعي العربي الرسمي بالخصوص. لقد استغرقوا عقودا طويلة من أجل ترسيخ هذه الرؤية، وهذا في الحقيقة أحد الأهداف من التطبيع. المسؤول عن التدمير هو إسرائيل، والمسؤول عن المجاعة هو أيضا إسرائيل، وكذلك المسؤول عن الإبادة والتهجير. عندما تقول إسرائيل أن حماس هي المسؤولة فهذا أمر متوقع، ولكنه خطاب لم يعد مقنعا حتى للإسرائيليين فما بالك للغربيين. يأتي حينئذ دور الآخرين، وهم عرب ومسلمون، للتعبير عن نفس الفكرة ولكن من زاوية أخرى، أي من زاوية الشفقة على الفلسطينيين. هذان فاعلان موجودان باستمرار في كل صراع من أجل التحرر، ولم يخل منهمها بلد خاض معركة استقلاله عن الإستعمار. هناك الإستعمار، وهناك أبناء الإستعمار، وهناك المقاومة. أبناء الإستعمار هم أولئك الذين ربطوا مصالحهم بالإستعمار، واعتقدوا أنه لا يمكن إزالته. عندما يحتد الصراع يكون وقت تقديم خدماتهم قد حان، وهذا ما يحصل اليوم بالضبط.
القدس العربي: رغم التسليم بأن عملية طوفان الأقصى هي "قرار فلسطيني بحت"، إلا أن البعض يتحدث عن "دور ما" لطهران وموسكو فيها، على اعتبار أن الأولى قامت بتحريك عدد من الجماعات التابعة لها (في لبنان والعراق واليمن) لاستهداف إسرائيل، فيما استفادت روسيا من الحرب من خلال تحويل أنظار الرأي العام العالمي نحو الشرق الأوسط وغض النظر عن حربها المتواصلة في أوكرانيا، ما رأيكم بذلك؟
عدنان المنصر: ما الذي يدفع قوى تتدخل بنشاط في الصراع، بالأموال والأساطيل والذخائر والدعاية والفيتو للقول أنها تملك شرعية هذا التدخل، وأنه ليس من حق المقاومة في فلسطين أن يكون لها أصدقاء وحلفاء يدعمونها؟ هذا أمر على علاقة شديدة بالسردية التي تحدثنا عنها سابقا. طبيعي أن يكون للمقاومة أصدقاء، بل هذا مطلوب لأنه ينطلق من واجب أخلاقي وسياسي وإنساني وهو مساعدة شعب على نيل حريته والتخلص من استعمار ظالم وإجرامي بشع. ما يحصل من هجمات إنطلاقا من اليمن والعراق ولبنان وحتى سوريا أمر يحقق غايتين: أن الأمر يتعلق بصراع ذي بعد إقليمي ودولي، لأن المشروع الصهيوني لا يستهدف فلسطين فحسب. وأنه يتعلق أيضا باستهداف لأمة تحمل نفس الثقافة ونفس المصالح. فلسطين هي الجزء من الأمة الذي يستهدف بالحصار والقتل والتدمير والإبادة، لكنه تكثيف لكل الصراع ضد الظلم والهمجية التي تمثلهما اليوم إسرائيل. فلسطين تكثيف لكل المبادئ الأخلاقية والإنسانية، وإسرائيل تكثيف لكل نقيض أقصى لتلك المبادئ. هذا يجعلنا معنيين بالصراع، مثلما فهم الغرب أنه معني به أيضا. أن تكون إيران إلى جانب المقاومة فهذا أمر يشرف إيران ويشرف المقاومة في الوقت نفسه، كما يشرف قيم الحق والعدل والإنسانية. كذلك الأمر بالنسبة للبنانيين والعراقيين واليمنيين.
أما أن تكون هناك تبعات جيوستراتيجية دولية لما يحدث، فهذا أمر طبيعي. هذا نتيجة للتكثيف الذي يحمله الصراع العربي الإسرائيلي لأنه في الوقت نفسه صراع ذو أبعاد دولية. هناك قطب غربي يريد الاستفراد بالقرار والمصلحة والقوة، وهناك قوى تقاوم هذا المخطط. من مصلحة جميع المستهدفين بهذا المخطط أن يتحدوا إذا لإفشاله، لأن وجودهم مرتبط بهزيمته. هذا منطق بسيط: ما الذي يعني أستراليا البعيدة آلاف الأميال عن فلسطين بأن تقف إلى جانب إسرائيل؟ المصلحة الإستراتيجية والإرتباط بالغرب. هذا نفس ما يدفع روسيا وإيران والمقاومة لتنسيق أنشطتها: مقاومة الإستعمار الغربي والهيمنة الغربية.
القدس العربي: يرى عدد كبير من المراقبين أن عملية طوفان الأقصى تشكل مرحلة مفصلية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وأن ما بعد حرب غزة ليس كما قبلها، وخاصة في ما يتعلق بـ"سقوط" اتفاقية أوسلو ومبادرة السلام العربية، وغيرها، ما رأيكم بهذا الأمر؟
عدنان المنصر: بالفعل، فقد كان توقيت عملية الطوفان خارقا بجميع المقاييس. لقد جاء في سياق أقصى التوسع الصهيوني في المنطقة عبر التطبيع وعبر تعميق دور إسرائيل كقوة ردع استعماري أقصى في المنطقة. لقد كانت هناك محادثات تطبيع مع السعودية مثلا، واتفاقية تعاون عسكري وأمني إسرائيلي مغربي في شمال إفريقيا، وتمدد إسرائيلي (عبر الإمارات خصوصا) في القرن الإفريقي واليمن وآسيا الوسطى. جاءت العملية وإسرائيل في أوج جبروتها فكسر شوكتها وأوضح الطريق، وأن سلوكه والإنتصار فيه ممكن. في نهاية الأمر، إسرائيل مجرد نمر من ورق عندما تتوفر العزيمة الصادقة والرؤية الواضحة، وهذان هما المقومان الأساسيان في عملية الطوفان. أنظر فقط إلى اسم العملية: الأمور لن تكون كما قبل السابع أبدا. هناك مشهد قديم انتهى، ليحل محله مشهد جديد تماما. هذا المشهد الجديد يخترق فضاءات استراتيجية أخرى، امتدادا جغرافيا وعمقا سياسيا. هناك تحولات كبيرة تحدث في الغرب اليوم بفضل ما يجري في غزة، ولا يتعلق الأمر بالمظاهرات فقط، بل بالتمثلات التي غدت تحملها الأجيال الأوروبية الشابة للصراع. هذا يفتح على تطورات كبرى في الوعي الإنساني ويعطي للقضية الفلسطينية زخما كثيفا ويعيد وضعها باقتدار على الساحة الدولية. هناك لدى فئات متوسعة باستمرار من الغربيين اليوم وعي يزيد كل يوم بالخطر الذي تمثله الصهيونية على البشرية، ووعي آخر بعمق تورط حكوماتهم في المظالم البشعة التي تجري على الأرض، وارتهان النظام السياسي العالمي للصهيونية والإستعمار. هناك لدى أبناء القضية اليوم قناعة لن يغيرها شيء: السلام الحقيقي يمر عبر إزالة الاحتلال وليس عبر التفاوض معه، والإنتصار يمر عبر الكفاح الوطني المسلح وليس عبر تسول التنازلات الصغيرة. هذا مهدد لكل النظام العربي، وهو ما يفسر أن كل هذا النظام ينتظر سقوط المقاومة وانتصار إسرائيل، لأن هذا يرسخ نظرته للواقع ويعيده لدوره الذي عصف به طوفان الأقصى. هذه جميعها أنظمة أوسلو، وسلطة عباس ليست إلا إعادة إنتاج للنظام الرسمي العربي المتعايش مع الإستعمار والصهيونية والهيمنة الغربية. أصبحنا نفهم كل ذلك بوضوح الآن، وبفضل الطوفان.
القدس العربي: في ذات السياق، ما هي السيناريوهات المطروحة لنهاية الحرب المتواصلة في قطاع غزة؟ بمعنى: هل ستتمكن إسرائيل من "تهجير" سكان قطاع غزة والضفة الغربية إلى الدول المجاورة، وإقامة "دولة إسرائيل الكبرى"؟ أم أنها ستقبل مجددا بـ"حل الدولتين" التي أعادت واشنطن وحلفاؤها طرحه مجددا؟ وهل ما زال هناك إمكانية لوجود دولتين فلسطينية وإسرائيلية جنبا إلى جنبا؟ وما رأيكم باقتراح البعض تشكيل دولة واحدة تضم العرب واليهود جنبا إلى جنب على أرض فلسطين، على أن تتم عودة الفلسطينيين إلى بلادهم وعودة "اليهود المتطرفين" إلى "بلدانهم السابقة" في الدول الغربية (وفق نموذج جنوب إفريقيا، أو وفق مقترح "إسراطين" للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي)؟
عدنان المنصر: يجب أن نلاحظ شيئا في البداية: أنه مضى وقت طويل، بل سنوات، لم نعد نسمع فيه كلمة واحدة عن حل الدولتين. لم يعد طرح العبارة إلا بعد السابع من أكتوبر، وهذا فيه إعتراف من رعاة اتفاقية أوسلو بأن أوسلو فشلت تماما. ما لم يقله الأمريكيون والأوروبيون هو أنهم كانوا مسؤولين عن هذا الفشل، بل أنه كان فشلا مخططا له بإمعان، وصدقته السياسات المتبعة منذ ذلك الوقت بما فيه غض النظر عن توسع الإستيطان في الضفة الغربية. استغرق الأمر حوالي الثلاثين عاما ليتأكد الجميع، بمن فيهم "أنصار السلام" من العرب بأن كل المسار كان نوعا من التحيل السياسي على الحقوق الفلسطينية، وأن خطة كاملة قد وضعت من أجل الإلتفاف على ما بقي من وجود فلسطيني في الأراضي المحتلة. جاء مسار مدريد لإجهاض الإنتفاضة، وظن الفلسطينيون في منظمة فتح أنهم تحصلوا على اعتراف بحقوقهم، أو بالحد الأدنى منها. كان مسارا لوأد المقاومة لم ينتج سوى مزيد من الصهينة في المنطقة واتخذه بقية العرب أو بعضهم مبررا للتطبيع. السياق اليوم مشابه، حيث أن الهدف من عودة مصطلح "حل الدولتين" للتداول هو وأد المقاومة والحقوق الفلسطينية. يعلم الفلسطينيون اليوم ذلك جيدا بكل تأكيد، ولكن سلطة رام الله لا تزال تصدق الأمر، ولكن هذا موضوع آخر تماما.
من يتحدث عن حل الدولتين من العرب ويؤمن به، لا يعرف شيئا عن طبيعة المشروع الصهيوني، ولا يفهم ما يجري هناك منذ أكثر من مائة عام. المشروع الصهيوني هو مشروع استعمار عنصري مدعوم تماما من الغرب لاعتبارات وسياقات يطول شرحها. في نظر هذا المشروع لا وجود أصلا للفلسطينيين، أتحدث هنا عن وجود شعب فلسطيني وثقافة فلسطينية، فما بالك عندما يتعلق الأمر بالمشاركة في الدولة أو في القرار. بالنسبة لإسرائيل، لا وجود للعرب حتى العراق، وليس في فلسطين فقط. ما يعني أن الأمر يتعلق بمشروع متوسع باستمرار، مستند إلى القوة العمياء وإلى مساندة الغرب بطريقة غير محدودة. هل يمكن الحديث مع الإسرائيليين عن "حل الدولتين" في حين أن خططهم هي الإبادة والتهجير؟ إطلاقا لا. الأمر لا يستوجب إلا المقاومة، والحرب التي يخوضها الفلسطينيون هي حرب بقاء، لا حربا من أجل مكان يسمح لهم به الإسرائيليون في فلسطين.
القدس العربي: كيف تعلقون على حادثة قيام الجندي الأمريكي آرون بوشنل (أو بوعزيزي أمريكا كما يسميه البعض) بإحراق نفسه أم سفارة الكيان الصهيوني في واشنطن؟ وهل بدأت الأجيال الجديدة في الغرب (الرأي العام الجديد) تعي حقيقة الكذب والتزييف الذي تبثه وسائل الإعلام حول القضية الفلسطينية وتسويق إسرائيل كـ"ضحية للإرهاب الفلسطيني"؟
عدنان المنصر: الأمر يتعلق بمؤشر، من ضمن مؤشرات أخرى عديدة، على تحول عظيم، وهو يحصل بفضل تضحيات الفلسطينيين. ثلث الشباب الأمريكي اليوم يعتقدون أن إسرائيل دولة معتدية، وأنها تقوم بحرب إبادة غير مبررة على الفلسطينيين، وأنها ترتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي، وأنه ينبغي إيقافها عن القيام بذلك. هذه النسبة تتوسع باستمرار، وهي ظاهرة لا تخص الولايات المتحدة فحسب. الآن، وفي خضم الانتخابات التمهيدية الأمريكية، هناك محاولة من إدارة بايدن لتصويب بعض المواقف بسبب الغضب الذي يشق قواعد الحزب الديمقراطي من مساندته المبالغ فيها لإسرائيل. المظاهرات الضخمة في أكثر الدول إسنادا لإسرائيل هي مؤشر آخر، وهي توحي بتحول عميق في الرأي العام الغربي تجاه السردية السائدة. هذا يحصل بفضل المقاومة وبفضل السابع من أكتوبر. اليوم يكتشف هذا الرأي العام أن حكوماتهم شريكة في الجرائم الواسعة التي تحصل، وأن هذه المشاركة تتم رغما عن إرادة الرأي العام، وبغض النظر عن مصالح بلدانهم. يعني ذلك أن هناك وعيا متزايدا بتبعية حكوماتهم لإستراتيجيات مضادة للمالح الوطنية الحقيقية لتلك البلدان، أي أنها حكومات تابعة. من كان يجرؤ على التنبؤ بكل هذه التحولات قبل السابع من أكتوبر؟ ما يحصل عظيم لأنه يسقط السردية الصهيونية التي حاولت الترسخ في الوعي الإنساني وباستعمال كل الإمكانيات طيلة ثمانية عقود. من أسقط هذه السردية هي المقاومة وليس أوسلو. أوسلو كانت تعميقا لسردية إسرائيل الإستعمارية الصهيونية.
القدس العربي: كيف تقيمون الموقف التونسي من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؟ وهل توافقون على رأي بعض المراقبين حول وجود "تناقض" في الموقف الرسمي، على اعتبار أن تونس كانت من أولى الدول التي عبرت عن دعمها بوضوح للمقاومة الفلسطينية وأرسلت مساعدات لأهل غزة واستقبلت عشرات الجرحى، ولكنها -في المقابل- رفضت القرارات التي أصدرها الجامعة العربية والأمم المتحدة حول قطاع غزة، كما رفضت الانضمام إلى دعوى جنوب إفريقيا ضد دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية (رغم أنها أشادت بنتائجها)؟
عدنان المنصر: عندما نفهم السياق الذي يقع فيه إرسال هذه المؤشرات المتناقضة، فإن الأمر يصبح مفهوما. نحن تحت حكم شعبوي، والتناسق ليس أبدا غاية الشعبويين. الغاية هي المزايدة، وربح التأييد بناء على تلك المواقف المزايدة، وخاصة بناء على الغموض الذي يحيط بها. الرأي العام يطرب لسماع شعارات مثل أننا لا نعترف بإسرائيل من الأصل لذلك لا نستعمل كلمة "تطبيع". نفس الرأي العام يطرب لأننا نزايد على مواقف الجامعة العربية لأن هذا الرأي العام يحتقر الجامعة العربية. الهدف دائما هو مجاراة المزاج العام وأن تخرج الشعبوية رابحة في كل الحالات. في المقابل، هناك أشياء لا تقال أبدا، لأنها تنسف مقولة السيادة التي ترفع شعارها الشعبوية، مثل أن الذهاب في بعض المواقف يمكن أن يتسبب في ضغوطات غربية على تونس، خاصة وأن شركاءها الإقتصاديين الأساسيين هم من المساندين لإسرائيل. ما حصل في البرلمان حول "مشروع قانون تجريم التطبيع" ينبئنا بأشياء أخرى: الرئيس مستعد لإظهار برلمانه عاجزا لمجرد أنه رافض للفكرة من الأساس. وقعت خروقات عديدة في هذا الموضوع ووقع إيقاف مناقشة المشروع بعد أن صوت البرلمان على فصلين من المشروع، واعتقادي أنه لن يعود للموضوع مطلقا بسبب اعتراض الرئيس. يجب أن نقول أيضا أن مشروع القانون كان سيئا، وأن نواب الرئيس أرادوا اكتساب مصداقية ما بالاستفادة من السياق العام، فقدموا مشروعا مستعجلا وشعبويا، فسقطوا بالضربة القاضية في مواجهة شعبوية الرئيس نفسه. شعبويتان فاشلتان في مواجهة بعضهما البعض.