معركة 26جويلية التي لا يجب أن تنتهي
معركة 26جويلية التي لا يجب أن تنتهي
هناك في حالتنا التونسية، ولعل الموضوع ثقافي، نوع من التسليم بأن الحاضر إما أفضل من الماضي، أو أنه اكثر سوءا منه. كل الخلافات السياسية التي تنشأ بعد انتقال ما أو قطيعة ما، تنطلق من هذه المقارنة الواقعية، ولكن المريضة في الوقت نفسه. قليل هم من يعتبرون أن هناك زمنا ثالثا إلى جانب الماضي والحاضر، يعلو عليهما معا، ويعطي لكل الصراعات معناها الأسمى: المستقبل.
المستقبل هو المعركة الوحيدة التي تستحق أن تُخاض: في حالتنا اليوم، هذا المستقبل يعني، في صيغته الأكثر مثالية: دولة ديمقراطية ذات سياسة إجتماعية يتساوى مواطنوها أمام القانون ويديرون شؤونهم بالتشاور فيما بينهم ويمارسون حرياتهم وكرامتهم. هذا تلخيص قصير جدا لما ينبغي أن يكون عليه المستقبل، تلك المعركة التي لا يجب ان تنتهي.
في صراع اليوم، تتحول المقارنة بين 24 و 25 جويلية إلى حرب داحس والغبراء التي لا أمل في نهايتها. أما داحس فلازالت تعتقد ان ماكانت تديره هو الديمقراطية ودولة الحريات والقانون والمؤسسات التي أنهتها الغبراء بضربة سيف مباغتة وغادرة. تتناسى داحس أن كل ذلك كان قد أصبح هراء لا قيمة له: ماكان يعيش عليه الناس في عهد سطوتها كان فسادا انقطع نظيره، واستبدادا بالشورى، واحتيالا فاق كل الحدود ووقاحة بلغت الآفاق.
ذلك ما فوّض للغبراء ضربة السيف تلك. لكن الغبراء ليست مَلاك القبائل، وتلك القبائل تعرف جيدا أن معركتها لم تنته بإزاحة داحس، أو أنها يجب أن تعرف ذلك. كل التهليل والتكبير للغبراء ليس إلا فرحا بإزاحة داحس، لكن الغبراء نفسها لا فضل لها، لحد الآن غير ذلك. يعتقد زعيم الغبراء أن الطريق غدا مفتوحا له لتعويض سطوة بسطوة، ولكن بعضهم يعرف أن السطوة من دون روح، تجعل الغبراء كداحس، أو أقل قليلا، أو أكثر قليلا .
كيف يفسر المرء حالة الرضا الكاملة وغير القابلة للنقاش عن الغبراء، وإعراض أغلب الناس حتى عن قبول التساؤل حولها؟ أنهم يعتبرون فضلها في إنقاذهم من داحس. هذا أمر فيه بعض منطق. لكنه لا يخرج عن المفاضلة بين الواقع والماضي. الحياة توقفت عند هؤلاء يوم 25، وكل الأيام بعدها 25. لكن آخرين، وأنا منهم، لا يزالون ينتظرون 26. مِمّ يُفترض أن يُقدّ السادس والعشرون: دولة ديمقراطية ذات سياسة إجتماعية يتساوى مواطنوها أمام القانون ويديرون شؤونهم بالتشاور فيما بينهم ويمارسون حرياتهم وكرامتهم. دائما ومجددا.
عندما انتقدنا الرابع والعشرين كنا ننطلق من هذه العبارة. وعندما ننتقد الخامس والعشرين، فنحن ننطلق منها أيضا. إنهاء الرابع والعشرين كان أمرا مطلوبا، ولكن إعادة الوضع للثالث والعشرين، وإن بدا مغريا للبعض، ليس عندنا بالأمر الوارد. هل يَعِد الخامس والعشرين بالإنتقال للسادس والعشرين؟ لا أرى مؤشرات جدية على ذلك، بل لا أرى سوى الرغبة في السطوة والإنتقام والإنفعال. لا أرى روح السادس والعشرين: دولة ديمقراطية ذات سياسة إجتماعية يتساوى مواطنوها أمام القانون ويديرون شؤونهم بالتشاور فيما بينهم ويمارسون حرياتهم وكرامتهم.
في اعتقادي، هذا من نوع المعارك التي لا تنتهي. المرهقون بالعِراك يخلطون بينه وبين المعارك: معركة المستقبل لا تخاض بالصمت على امتهان كرامة الناس ووصمهم، ولا بانتهاك حرياتهم، ولا بدفن قدرتهم على الحلم. مهما كانت المبررات قوية، فلا ينبغي لها أن تدرك حقوق الناس وكراماتهم. تلك الحقوق والكرامات ديست بوهم الديمقراطية، وتداس اليوم بِوَهْم الإنقاذ.
في كل الحالات، من يحب أن يرى وطنه بخير، لا يستبدل سطوة بسطوة، ولا نعْلا بِنعل.